من الأحداث المهمة المعتبرة التي وقعت خارج العالم الإسلامي، وكان لها صدى كبير، وأثر خطير لدى المسلمين، وخصوصًا الدعاة والمهتمين بالشأن الإسلامي: المؤتمر الذي عقد في ولاية كلورادو بأمريكا، وفي مدينة «جْلِنْ أَيْري» لتنصير المسلمين في العالم، والذي استمر لمدة أسبوع كامل، وقد اجتمع نحو 150 مائة وخمسين منصَرًا. وهو تتمة للمؤتمر الذي عقد في لوزان بسويسرا عام 1974م لتنصير العالم، أو قل: هو بداية لتنفيذ ما اتفق عليه هناك.  وقد أُعد للمؤتمر أربعون بحثًا، تعين على توضيح الرؤية، وتمهيد الطريق لتنصير المسلمين، الذين أحزن المنصرين إخفاقهم إلى اليوم في هدايتهم! وعدم استجابتهم لدعوتهم، وإيمانهم بالمسيح إلها ومخلّصا!!

لقد كانت أيام المؤتمر السبعة مشحونة بالعمل والإنجاز، جلسات متتالية في تسلسل صارم، وفيها قرروا إنشاء معهد للأبحاث والتدريب متخصص في تنصير المسلمين أطلقوا عليه اسم أحد عتاة التبشير، وكبراء التنصير، وهو صمويل زويمر، الذي رأس عددا من المؤتمرات التنصيرية في القاهرة وفي غيرها، منشئ مجالة «العالم الإسلامي» التبشيرية، فأرادوا إحياء ذكراه بهذا المعهد الذي اعتبروه بمثابة «جهاز مركزي» لتنفيذ قرارات المؤتمر، تم إنشاؤه بالفعل في جنوب كاليفورنيا، واختير «دون ماكري» رئيس مؤتمر كلورادوا مديرًا له.

جاء في التعريف بهذا المعهد هذه الفقرة:

 «إن الهدف الرئيسي لمعهد صمويل زويمر، هو مساعدة الرجل المسلم، والمرأة المسلمة، والطفل المسلم، في كل مكان، لتوفير الظروف التي تجعلهم يقبلون المسيح إلها ومخلصا لهم، وأن نرى الكنيسة مزروعة بين كل جماعة مسلمة»!! وللمعهد شعار مكتوب على لوحة كبيرة خضراء اللون، وباللغتين العربية والإنكليزية، ونص هذا الشعار: «لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله، فاذهبوا وتلمِذوا «اجعلوهم تلاميذ» كل المسلمين، من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة».  وقد رصدوا لهذه الغاية مليار دولار «ألف مليون دولار» جمعت بسهولة، ووضعت في أحد البنوك.

إن أخبار هذا المؤتمر تناقلتها وكالات الأنباء، ونقلت إلى العالم الإسلامي، وأقضت مضاجع الغيورين من المسلمين هنا وهناك، وأنا منهم، إن لم أكن في مقدمتهم، لما يبيت للإسلام من مكايد، وما يرصد من أموال، وما ينشأ من معاهد، وما يعد من رجال مدربين لتحويل المسلمين عن دينهم إلى المسيحية التي لم تعد مسيحية عيسى بن مريم، بل مسيحية «سانت بولس»، والتي لا يذهب من أهلها إلى الكنائس في أيام الأحد إلا نحو 5% خمسة في المائة منهم، كما قالت الإحصاءات في أوربا.

بزوغ فجر الصحوة الإسلامية

قد كنت أتوهم أن دعاة التنصير بدءوا حملتهم في الوقت الغلط، ففي هذا الوقت 1978م، كانت «الصحوة الإسلامية» الجديدة قد بزغ فجرها، وأشرقت شمسها، وبدأت أنوارها تمتد شرقا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، داخل العالم الإسلامي وخارجه ... وهي صحوة انبثقت من ضمير الشعوب، ومن قلب الجماهير،  وهي صحوة عميقة وشاملة، شملت إيقاظ العقول والمشاعر، وإحياء العزائم والضمائر، فهي صحوة علم وعمل، وفكر وحركة، وغيرة ودعوة، وكفاح وجهاد، ظهر أثرها في معارك التحرير ضد أعداء الأمة، وفي ميادين المال والاقتصاد، وميادين الثقافة والفكر، وفي ميادين الخلق والسلوك.

وقد جاءني صحفيون وصفحيات من أمريكا وأوربا، يسألونني - كما سألوا غيري - عن سر هذه الصحوة، التي جعلت الشباب يتردَّدون إلى المساجد، ويرجعون إلى القرآن والسنة، ويتمسّكون بآداب الإسلام، الفتى يلتحي، والفتاة تختمر «أو تتحجب»، والجميع يؤدون الفرائض، ويتجنبون المحرمات، بل يتقون الشبهات، ويقرءون الكتب الإسلامية، ويسمعون ويشهدون العلماء والدعاة المسلمين. في حين نرى الشباب الغربي أعرضوا عن الدين، وغرقوا في الشهوات، ولم يعد الدين من مطالب حياتهم؟ ثم بدا لي أن القوم قد وعوا بما يجري في عالم الإسلام من حولهم، بل بما يجري في بلدانهم ذاتها من حركة غير عادية للشباب المسلم، حتى في قلب أمريكا نفسها، فقد بدأ اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا يثبت وجوده، ويعقد مؤتمراته، ويفتح فروعه، وينشئ مؤسساته المتنوعة، ومنها جمعية العلماء والمهندسين، والجمعية الطبية الإسلامية، وجمعية العلماء الاجتماعيين، ومؤسسة الوقف الإسلامي وغيرها، ترتبط بأهل الفكرة والدعوة والتربية في البلاد العربية والإسلامية، تأثر بهم، وتؤثر فيهم.

وبدأ الغرب بمؤسساته السياسية والثقافة والدينية، يرقب هذه التحركات عن كثب، ويخصص لها الدارسين، وتعد لها الحلقات، فلم يكن في عزلة ولا غفلة عن هذه الصحوة. وخصوصًا المسئولين عن «التنصير» فيه؛ ومن هنا كانت حماستهم البالغة لعقد المؤتمر الأمريكي للمنصرين البروتستانت في ولاية كلورادو، بادرة منهم ليقطعوا الطريق على الصحوة الإسلامية الواعدة الصاعدة.

وفي أول كلمة لرئيس المؤتمر «دون ماكري» قال في مفتتح خطابه:بلغت الصحوة الإسلامية التي تجيش في أعماق 720 مليون مسلم شأوا لم تبلغه لعدة قرون مضت. ثم يتحدث عن البترول الذي يملك المسلمون معظمه: وهو يشكل شريان الصناعة في الغرب. وعن بروز القضايا الإسلامية في العالم، من تمرد جبهة مورو لتحرير المسلمين في الفلبين، إلى الصراع بين العلمانيين والإسلاميين الذي كان أن يفرض تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، كما ستقوم باكستان بتطبيق الدستور الإسلامي، لأول مرة في تاريخها، ابتداء من آذار عام 1978م (1). إلى غير ذلك من مظاهر الصحوة الإسلامية، التي تجلت أكثر ما تجلت في سلوك الشباب، الذي عمر المساجد، والشابات اللاتي التزمن طوعًا بالحجاب.

في هذا الوقت الذي بدأ فيه رجال التنصير ينشطون، كانت الصحوة تشق طريقها بقوة، بغير مبشرين، وبغير مليارات ولا ملايين، وبغير معهد زويمر ولا غيره. وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَ} [الأنفال: 36].

التحرُّك لمقاومة التيار التنصيري

على كل حال لقد أقلقتني أخبار مؤتمر كلورادو كما أقلقت غيري من العلماء والدعاة وأهل الغيرة على الإسلام وأمته، وكل الحراس الأيقاظ الذين عدُّوا أنفسهم مسئولين عن هوية الأمة وعن الحفاظ على عقيدتها ورسالتها مرابطين على ثغورها. وهذا ما حرَّكني لعمل شيء لمقاومة التيار التنصيري، الذي يستغل فقر المسلمين وجهلهم ومرضهم ومشكلاتهم، للتسلل منه إلى فتنتهم عن دينهم، بوسائل غير أخلاقية، وأساليب لا يرضاها الله ولا رسله، ومنهم المسيح عليه السلام. وهو ما انتهى إلى تأسيس «الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية» بالكويت ... وسأكمل بقية الحديث عن هذا الأمر الخطير عندما أتحدث عن إنشاء الهيئة الخيرية، في حينه من هذا الجزء من المذكرات إن شاء الله.

يذكِّرني هذا المؤتمر وطموحاته في تنصير أمة الإسلام الكبرى، ما كان قد قرَّره المنصِّرون في إندونيسيا أن يحوِّلوها إلى بلد نصراني في حدود خمسين عامًا، وضعفوا لذلك الإرساليات، واستعدُّوا بمضاعفة الميزانيات، وأسَّسوا عشرات المطارات، ووفروا أعدادًا من الطائرات، ينتقلون بها بين الجزر. مستغلين فقر الفقراء، وضعف المرضى، وضياع اليتامى والأرامل، وجهل الأميين، وفراغ القبائل الهمجية، وعلمانية الحكام، الذين لم يعد يهمهم أمر الدين، ولا الحفاظ على هُويَّة الإسلام، فقرَّروا غزو هذا البلد، الذي أصبح بعد ذلك أكبر بلد إسلامي في العالم، وتحويل مساجده إلى كنائس، وأبنائه من مؤمنين بالله الواحد الأحد إلى مؤمنين بالآلة الثلاثة: الإله الأب والإله الأبن، والإله الروح القدس.

ولكن الله خيَّب ظنونهم، وردَّ كيدهم في نحورهم، وأعاد سهامهم المسمومة إلى صدورهم، وقام رجال مخلصون من أبناء إندونيسيا على رأسهم د. محمد ناصر، فأنشئوا المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية، قاوموا بإمكاناتهم المحدودة، القدرات الهائلة التي يملكها المنصرون. وكانت النتيجة ما قرَّره القرآن الكريم: {يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} [التوبة: 32]، وسقطت الأنظمة الدكتاتورية في إندونيسيا، وقامت فيها صحوة إسلامية، لمس الناس آثارها في كلِّ مكان، حتى إنهم ترجموا من عدَّة سنين أكثر من مائة كتاب من كتبي.

وإن المرء ليعجب من غرور هؤلاء المنصِّرين، وكيف ختم الله على قلوبهم، وعلى أسماعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فباتوا يطمعون في أن يحوِّلوا المسلمين الموحِّدين على نصارى مثلثين، وكلُّ سنن الله تضادُّهم، وتنذر بإخفاقهم.

أولًا: لأن منطق الترقِّي أن ينتقل الإنسان من الشرك بمختلف مظاهره؛ ومنه الإيمان بآلهة ثلاثة إلى التوحيد الخالص، الذي هو جوهر الإسلام وتتمثل في قولة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وثانيًا: لأن من يدخل في الإسلام يضيف إلى إيمانه، ولا ينتقص منه. فكما أن اليهودي إذا تنصَّر، أضاف إلى إيمانه بموسى: الإيمان بالمسيح عيسى، وإلى إيمانه بالتوراة إيمانه بالإنجيل، فكذلك إذا دخل النصراني الإسلام أضاف إلى إيمانه المنقوص: إيمانه بمحمد وبالقرآن. وكما أعلن القرآن: {ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} [البقرة: 258].

ثالثًا: لأن المسلم يؤمن بكتاب تكفَّل الله بحفظه، وهو القرآن، فلم تضع منه كلمة، ولم ينقص منه حرف، والمسلمون يقرءونه كما كان يقرؤه النبي وأصحابه، ويكتبونه كما كان يكتب في عهد الخليفة الثالث عثمان، فكيف ينتقلون من هذا إلى كتاب ثبت تحريفه لفظيًّا ومعنويًّا، وكتبت في ذلك كتب ودراسات من الغربيين أنفسهم، ومن غيرهم، وهل يستبدل الإنسان الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ورحم الله البوصيري حين قال:

الله أكبر، إن دين محمد     **   وكتابه أقوى واقوم قيلا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده     **    طلع الصباح، فأطفأ القنديلا!

رابعًا: أن التاريخ ينقل لنا بالوثائق والحقائق والأرقام: أن الناس - منذ أربعة عشر قرنًا - ينتقلون من النصرانية إلى الإسلام، وليس العكس. وقد كانت مصر وبلاد الشام وشمالي إفريقيا والأناضول وغيرها نصرانية ودخلت جميعًا - إلا أقليات محدودة - في الإسلام.

خامسًا: أن كثيرًا من البلاد النصرانية الأصل، لم تعد نصرانية في الحقيقة، بل هي لا دينية تمامًا في تفكيرها، وفي وجدانها، وفي سلوكها. فأولى بالمنصِّرين أن يعودوا إلى أقوامهم ليردُّوهم إلى دينهم، بدل أن يذهبوا إلى أمة متمسِّكة بدينها، ولا تبيعه بملك المشرق والمغرب.

سادسًا: أن أي مسلم من عامة الناس، يعتقد أنه وحده يملك الحقيقة كاملة، وأنه يعلم عن حقيقة المسيح ما لا يعلمه المنصَّر عنه، وأن هذا المنصِّر ضال مضل، لأنه يعمل لحساب الغرب الاستعماري المادي الانحلالي، وليس لله وحده، فكيف يستجيب لمثله؟!

سابعًا: ثم العجب كيف يطمع هؤلاء في إضلال أمة عن دينها، بحيث تكفر بربها الواحد الأحد، وبقرآنها المعجز الخالد، وبنبيِّها خاتم النبيين، وهي أمة الخلود التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، وقد بلغت مليارًا وستمائة مليون نسمة. من الأحمق المهووس الذي يحسب أن هذه الأمة قطيع يساق بسوط الترهيب، أو بزمام الترغيب عن طريق وجبة من الغذاء، أو حبات من الدواء؟! إننا نذكرهم بقول الشاعر:

يا ناطـح الجبـل العـالي ليوهنـه             أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل!(2)

ثامنًا: كيف يَدَع المسلم دينا يقوم على العلم، واحترام العقل. حتى عن أول آية نزلت في قرآنه: {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، وقرَّر المحقِّقون من علمائه: أن إيمان المقلِّد غير مقبول، والقرآن يقول: {قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} [البقرة: 111]، إلى دين يقول لأتباعه: اعتقد وأنت أعمى! اغمض عينيك ثم اتبعني. وقد حفل تاريخه بمقاومة العلم، واضطهاد العلم، ومحاكم التفتيش. في حين أن علماءنا يقولون: الدين عندنا علم، والعلم عندنا دين!

تاسعًا: كيف يَدَع المسلم دينا عالميا خالدا بطبيعته، على دين محلِّي إقليمي مؤقَّت بحكم طبيعته، ورسالته الأصلية؟! فالمسيح - كما ذكر القرآن - رسول إلى بني إسرائيل، والإنجيل نفسه يقول على لسان المسيح: «إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة». بهذا الأسلوب الحصري. أما القرآن فقد نادى من أول يوم برسالة عالمية: {لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، و{وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} [الأنبياء: 107]، {قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، كما أعلن أنه ختم النبوات فلا نبي بعده (3).

......................

(1) انظر كتاب «التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي» (ص 13).

(2) من شعر: الحسين بن حميد.

(3) متفق عليه: رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3455)، ومسلم في الإمارة (1842) عن أبي هريرة