الشيخ عبد السلام البسيوني*
ثلاثة أحداث لافتة حصل خلال شهر تقريبًا، ولا يمكن أن ينفصل بعضها عن بعض- وإن أردنا ذلك- وهى على الترتيب:
قيام مئات المسيحيين المصريين بزيارة (الأراضى المقدسة) فى فلسطين المحتلة بمناسبة عيد الفصح؛ رغم أن الكنيسة القبطية جددت يوم 14 أبريل الفائت منعها لأتباعها من زيارة القدس بعد وفاة البابا شنودة الثالث، الذى أصدر أمر المنع!
ثم زيارة الشيخ المثير للجدل على الجفرى للمسجد الأقصى المبارك، تحت حماية الاحتلال الإسرائيلى؛ الأمر الذى عده رئيس فرع الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين فى فلسطين الشيخ مروان أبو راس، فى بيان له تطبيعًا حقيقيًّا ومقصودًا مع الاحتلال الصهيونى، وأن الزيارة خروج حقيقى عن رأى العلماء المسلمين الذين أكدوا على عدم زيارة المسجد الأقصى فى ظل الاحتلال!
ثم كان ثالث الأحداث قيام الشيخ على جمعة، مفتى الجمهورية، بزيارة مدينة القدس الشرقية المحتلة تحت إشراف الديوان الملكى الأردنى - باعتباره المشرف على مقدسات القدس- دون تأشيرة أو ختم دخول إسرائيلى، والذى على إثره أعلنت إذاعة جيش العدو الصهيونى أن المفتى زار القدس بالتنسيق مع وحدة الاتصالات بالقوى الخارجية التابعة للجيش الإسرائيلى! وأن زيارته نادرة الشبيه من أشخاص مسئولين من ذوى المناصب الدينية، الذين حرموا مثل هذه الزيارات حتى لا يحتاجوا الحصول على تأشيرات إسرائيلية..
وهذه الزيارات أتت بعد دعوة أطلقها الرئيس الفلسطينى محمود عباس (الوطنى) للعرب والمسلمين لزيارة الأقصى، وهو تحت الاحتلال الإسرائيلى.
فكيف نقرأ هذه الأحداث الثلاثة؟
هل هى بداية لحدث كبير، يقدم بعده هؤلاء الثلاثة على أنهم ذوو بصيرة، وأنهم استشرفوا المستقبل، ورأوا ما لم يره غيرهم؟
هل حصل هذا بإشارة من جهة ما لترتيب نتيجة ما؟
هل هى بداية قفزة تطبيعية فى ظل الفوضى السياسية التى تحياها المنطقة؟
هل هى لا قدر الله إشارة خضراء، أو دقة ساعة صفر لما لا أرجو أن يحدث؛ مما تخطط له الدولة الإرهابية، وتؤسس منذ إنشائها، و(جهزت له الشوالى قبل اللبن)؟
وللعلماء فى الزيارة بشكل عام موقفان: الفريق المسيس الذى لا ينظر إلى ما وراء الظاهر (وآسف على هذا الحكم) ويتحدث عن تحبيبه صلى الله عليه وسلم لشد الرحال للمساجد الثلاثة، ومنها الأقصى، والمجاورة فى أرض المحشر والمنشر..
والفريق المقاوم الذى يرفض التطبيع، والتنازل، وإعطاء العدو الغاصب اللص مبررات يوطِّئ بها لقدمه على عنق الأرض التى بارك الله حولها؛ ومن هؤلاء العلامة القرضاوى، الذى ذكر خلال مؤتمر نظمته مؤسسة القدس الدولية بالتعاون مع الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين بنقابة الصحفيين المصرية، قبل نحو ثلاث سنين أن من الواجب الشرعى على المسلمين نصرة المسجد الأقصى، وأن ديننا لا يجيز الرضوخ للأعداء وترك أية قطعة من أرض الإسلام لهم، موجبًا على المسلمين نصرة وعون إخوانهم فى فلسطين بالمال والنفس والدعاء، مستدلاًّ بما ذهب إليه الفقهاء أنه فى حالة عجز أهل البلد عن طرد العدو المحتل فإن على جيرانهم نصرتهم.
وكان القرضاوى قد حرم الزيارة (فى: فتاوى معاصرة) لأسباب منها: أن هذا الحكم مبنى على مقاطعة اليهود الغاصبين، وهذا ما نقدر عليه/ وأن السفر إلى ديار المحتلين فيه شد من أزرهم ماديًّا ومعنويًّا/ ولأن فى الزيارة كسرًا للحاجز النفسى بيننا وبينهم ويعمل بمضى الزمن على ردم الفجوة، التى حفرها الاغتصاب والعدوان.. وهذا كله همزة وصل إلى ما يسمى بالتطبيع/ ولأن الاختلاط بالغاصبين بغير قيد ولا شرط يحمل معه أضرارًا خطيرة وتهديدًا لمجتمعنا بنشر الفساد والرذيلة والأمراض؛ فلهذا كان سد الذرائع إلى هذا الفساد المتوقع فريضة وضرورة: فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع!
ومن الفريق المقاوم فضيلة مفتى الجمهورية السابق الشيخ نصر فريد واصل الذى قال إنه لا يمكن لقيادة دينية كبيرة مثل مفتى مصر إن يفعل ذلك، وطالب بعزل جمعة من منصبه "لكون زيارته تمت بإذن من الاحتلال الصهيونى الذى يسيطر على القدس"مشيرًا إلى أن موقف الأزهر واضح فى تحريمه زيارة القدس وهى ترزح تحت الاحتلال.
ومنهم رابـطـة عـلـمـاء فـلـسـطـيـن التى رفضت هذه الزيارات بشكل قاطع، وأيّدتها فتاوى عامّة العلماء والدعاة فى العالم الإسلاميّ، ووثّقتها مواقفهم! وكذا حماس التى اعتبرت الزيارة "خاطئة وما كان ينبغى لها أن تتم لأنها نوع من التطبيع يستغله الاحتلال لشرعنة وجوده"!
ومن الفريق المقاوم رابطة العلماء السوريين التى كتب عنها عبد المجيد البيانونى بيانًا ساخطًا استشهد فيه بموقف سيدنا عثمان رضى الله عنه يوم صلح الحديبية، وبصيرته المستنيرة حين عرض عليه المشركون أن يطوف بالبيت - وقد جاء يفاوضهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - وكأنّهم كانوا ينصبون له فخًّا، فأقسم رضى الله عنه أنّه لن يطوف بالبيت حتّى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والبيت العتيق على مرمى بصره، والشوق فى قلبه لا شكّ فى توقّده.. وهل يقاس الشوق إلى المسجد الأقصى بالشوق إلى البيت العتيق؟!
كذلك كان موقف العالم القاضى، محيى الدين بن الزكى عندما دعى للخطبة والصلاة فى المسجد الأقصى، وهو تحت الاحتلال الصليبى قبل أن يحرّر بقليل، فقال: "لا والله؛ لا أخطب ولا أصلّى فى المسجد الأقصى قبل أن نحرّره من أيدى الصليبيّين".
وأكد البيانونى أنّ الزيارة سياسيّة مسيّسة، تستغل عاطفة دينيّة حاضرة فى قلب كلّ مؤمن.. ويكفى للشكّ فيها ورفضها أنّها جاءت بمبادرة من العدوّ المغتصب، أو بموافقته وتشجيعه، ولا يخفّف ذلك ولا يلغيه قضيّة التأشيرة على الجواز، فتلك قضيّة شكليّة، ربّما يحصل عليها كلّ من أرادها.. بل إن ذلك ممّا يؤكّد الريبة ويثبتها.
والحق أننى لا يمكن أن أطرد من ذهنى المواقف المريبة للجفرى، وموقف المفتى أثناء الثورة، وأحكامه القاسية الإقصائية بعدها، وترتيب سفر الوفود المسيحية، وتتابع ذلك فى شهر واحد!
فهل أنا محق فى هواجسى؟
يا رب لطفك.
ــــــ
* عضو مجلس أمناء رابطة تلاميذ القرضاوي.
- عن صحيفة المصريون،20/4/2012.