السؤال: أنا طالب مسلم أدرس دراسات عليا (دكتوراه) في علوم الذرة في بلد أوربي هو ألمانيا، وأحمد الله أني محافظ على ديني، مؤد لفرائض ربي، متعاون مع إخواني هنا على خدمة ديني، والحفاظ على الجالية الإسلامية هنا، وهي كبيرة بحمد الله.

والمشكلة التي أود أن أعرضها على فضيلتكم هي: ماذا يحل لنا من مجاملة القوم في المناسبات المختلفة وما يحرم علينا؟ ومنها: مناسبات وطنية، وأخرى مناسبات دينية، وأشهرها عيد "ميلاد المسيح" أو ما يسمى "الكريسماس" الذي يحتفل به القوم احتفالًا كبيرًا.

هل يجوز للواحد منا أن يجامل زميله في الدراسة، أو مشرفه على الرسالة، أو رفيقه في العمل، أو جاره في المسكن، في هذه المناسبة ويهنئه بها ببعض الكلمات الرقيقة المعتادة؟

فقد سمعت من بعض الأخوة: أن هذا حرام، بل من كبائر الذنوب عند الله؛ لأن فيه إقرارا لهم على الباطل والكفر، وموافقة لهم على التمادي فيه، ومشاركة لهم فيما هو من شأن دينهم.

وأنا حين أجاملهم بكلمة أو بهدية لا يخطر في بالي أني أقرهم على باطلهم، أو أوافقهم على كفرهم، إنما هو من حسن المعاشرة التي أمر بها الإسلام، ولطف التعامل مع الناس. ولا سيما أنهم يبادرون بتهنئتنا في أعيادنا، وقد يهدون إلينا بعض الهدايا، وأجد من الجفاء والخشونة والقسوة التي لا تليق بالمسلم: أن يقابل هذا التودد من القوم بوجه عبوس، وجبين مقطب، وتجاهل للمناسبة، تظهر المسلم بمظهر منفر للقوم، مسيء إلى الإسلام، وخصوصًا في هذه الآونة التي تشتد فيها الهجمة على الإسلام، ووصفه بالعنف ووصف دعاته بالإرهاب، فنحن بهذا التعامل الخشن نعطيهم حجة أو سلاحًا للطعن في ديننا وأمتنا.

نرجو من فضيلتكم التكرم ببيان موقف الفقه الإسلامي المعاصر من هذه القضية الحساسة في ضوء الموازين الشرعية، كما عودتمونا، في مثل هذه القضايا، سائلين الله تعالى أن ينفع الأمة بعلمكم، ويبارك في جهودكم وجهادكم، آمين.

جواب فضيلة الشيخ القرضاوي:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (وبعد)

فلا شك أن القضية التي سأل عنها الأخ قضية مهمة وحساسة، كما وصفها، وقد سُئلت فيها في بلاد شتى في أوربا وأمريكا من الأخوة والأخوات، الذين يعيشون في تلك الديار، ويعايشون أهلها المسيحيين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم روابط تفرضها الحياة، مثل الجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يعين الطالب المسلم بإخلاص، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم بإخلاص، وغيرهما. وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم    فطالما استعبد الإنسان إحسان!

ما موقف المسلم من هؤلاء من "غير المسلمين" المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على اخراجهم؟

إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيين، فقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة:8-9) ففرّقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم.

فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، العدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلا وإحسانا.

وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم؛ فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق، إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركو مكة بالرسول وأصحابه.

وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة "البر" حين قال: "أن تبروهم" وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو "بر الوالدين".

وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: "صلي أمك". هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين.

حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: {وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة:5)، ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم:21).

وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده؟! وقد قال تعالى في بيان علاقة الأزواج بعضهم ببعض: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} (البقرة:187)، ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (الفرقان:54).

ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة ومالها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟! وما موقفه من أقاربه من جهة أمه، مثل الجد والجدة، والخال والخالة، وأولاد الأخوال والخالات، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى، وقد قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (الأنفال:75)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} (النحل:91).

فإذا كان حق الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق السلم، ورحابة صدره، ووفاءه لأرحامه، فإن الحقوق الأخرى توجب على المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن، وقد أوصى الرسول الكريم أباذر بقوله: "اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". هكذا: "خالق الناس" ولم يقل: خالق المسلمين بخلق حسن.

كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على "الرفق" في التعامل مع غير المسلمين، وحذر من "العنف" والخشونة في ذلك. ولما دخل بعض اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، ولووا ألسنتهم بالتحية، وقالوا: "السام" عليك يا محمد، ومعنى "السام": الهلاك والموت، وسمعتهم عائشة، فقالت: وعليكم السام واللعنة يا أعداء الله، فلامها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟! فقال:"سمعت، وقلت: وعليكم"، (يعني: الموت يجري عليكم كما يجري علي) يا عائشة: "الله يحب الرفق في الأمر كله".

وتتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة إذا كانوا -كما ذكر السائل- يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أُمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء:86).

ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرمًا، وأدنى حظًا من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر حظًا، والأكمل خلقًا، كما جاء في الحديث "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا"، وكما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وقد روي أن نصراني قال للشعبي: السلام عليكم، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله. فقال بعض أصحابه: تقول له: ورحمة الله؟! فقال: أو ليس في رحمة الله يعش؟! ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم المسلمين، فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، حسن الخلق، كريم العشرة، مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه. حتى أنهم -لثقتهم به عليه الصلاة والسلام- كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى أنه صلى الله عليه وسلم، حين هاجر إلى المدينة، ترك عليا رضي الله عنه، وأمره برد الودائع إلى أصحابها.

أنا أعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد شدد في مسألة أعياد المشركين وأهل الكتاب والمشاركة فيها، وذلك في كتابه القيم "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم"، وأنا معه في مقاومة احتفال المسلمين بأعياد المشركين وأهل الكتاب، كما نرى بعض المسلمين يحتفلون بـ "الكريسماس" كما يحتفلون بعيد الفطر، وعيد الأضحى، وربما أكثر، وهذا ما لا يجوز، فنحن لنا أعيادنا، وهم لهم أعيادهم، ولكن لا أرى بأسًا من تهنئة القوم بأعيادهم لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي المودة وحسن الصلة، التي يقرها العرف السليم.

ولا يخفى أن شيخ الإسلام قد أفتى في هذه القضية في ضوء أحوال زمنه، ولو عاش رضي الله عنه في زمننا ورأى تشابك العلاقات بين الناس بعضهم وبعض، وتقارب العالم حتى غدا كأنه قرية صغرى، ورأى حاجة المسلمين إلى التعامل مع غير المسلمين، وأنهم أصبحوا أساتذة للمسلمين -للأسف- في كثير من العلوم والصناعات، ورأى حاجة الدعوة الإسلامية إلى الاقتراب من القوم، وإظهار المسلم بصورة الرفق لا العنف، والتبشير لا التنفير..

ورأى أن تهنئة المسلم جاره أو زميله، وأستاذه في هذه المناسبة لا تحمل أي رضا من المسلم عن عقيدة المسيحي، أو إقراره على كفره الذي يعتقده المسلم، بل لو رأى أن المسيحي نفسه لم يعد يحتفل بهذه الأعياد على أنها عمل ديني يتقرب به إلى الله، بل إنه أصبح -في الأعم الأغلب- عرفًا وعادة وطنية أو قومية تعودها الناس ليستمتعوا فيها بالإجازة والطعام والشراب والهدايا المتبادلة بين الأهل والأصدقاء..

لو عاش ابن تيمية إلى زمننا ورأى هذا كله؛ لغير رأيه -والله أعلم- أو خفف من شدته، فقد كان رضي الله عنه يراعي الزمان والمكان والحال في فتواه.