تاريخنا المفترى عليه

تحميل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة، سيدنا وإمامنا وأسوتنا ومعلمنا محمد ، وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، ورضي الله عمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد دعيت - في صيف 2003م- من أمانة أطباء اتحاد العرب إلى محاضرة في (دار الحكمة) بمقر نقابة الأطباء في مصر، على سنة الإخوة في النقابة، الذين تعودوا أن يدعوني في كل عام لأحاضر في دارهم ، وأجيب عن تساؤلاتهم.

وكان أهم سؤال وُجِّه إليّ في تلك الليلة هو: سؤال الأخ الكريم الأستاذ الدكتور عبد الفتاح شوقي مستشار النقابة، وأيده كثير من الأطباء الحاضرين. وخلاصته: أن كثيرا ممن يتحدثون عن عظمة الإسلام وعدالته، وما أرساه في الحياة الإسلامية من قيم ومفاهيم وتقاليد: يقفون به عند عصر الخلفاء الراشدين، ثم يسكتون عما بعد ذلك من العصور، كأنما خلت هذه العصور من كل فضل أو إنجاز.

وقلت للدكتور شوقي وزملائه من الأطباء: للأسف ما قلتموه هو الشائع على الألسنة والأقلام، ولقد سمعت كثيرا منه فيما يقال، وقرأت كثيرا منه فيما يكتب، ومن كثرة تكراره صدقه الناس، واعتقده الكثيرون حقا، بل أكثر من ذلك: أن بعض الناس يَعُدّون الدولة الإسلامية بعد عصر الراشدين قد انحرفت عن الإسلام، وأصبحت (ملكا عضوضا) أو (ملكا جبريا) يقوم على القهر والجبروت، ولا صلة له بشريعة الإسلام. وبعض الكتاب المتدينين وقعوا في الشَّرَك، وحملوا على بني أمية حملة شعواء ، حتى جردوها من التقيد بدين أو خلق، وبعضهم قال: إنها كانت دولة عربية لا دولة إسلامية؛ وهو غلو لا دليل عليه، وينافي حقائق الدين، وحقائق التاريخ.

وجدنا من يقول: إن الإسلام لم يطبق إلا في عهد الراشدين، ولكن إذا حلّلنا عهد الراشدين: نجد عهد أبي بكر: عهدا قصيرا، اشتغل فيه بمحاربة المرتدين ومانعي الزكاة.. وعهد عثمان: عهد فتن داخلية انتهت بقتله.. وعهد علي: عهد حرب أهلية بين المسلمين بعضهم وبعض.. فلم يبق إلا عهد عمر، وعمر كان (فلتة) لا تتكرر‍! واستنبطوا من هذا الكلام: أن شريعة الإسلام (فكرة مثالية) لم تطبق في التاريخ، ولا يمكن أن تطبق في الواقع.

والعجيب أن هذا الكلام قاله رجل مثل الشيخ خالد محمد خالد في كتابه المعروف (من هنا نبدأ)! وأعجب كيف يصدر هذا من مثله، وهو من علماء الأزهر! لأنه يحمل اتهاما لرب هذا الدين والموحي بشريعته إلى رسوله: أنه كلف الناس ما لا يطيقون! وألزمهم بشريعة غير قابلة للتطبيق، وهو الحكم العدل والعليم الحكيم!!

ولكن من فضل الله تعالى: أن الشيخ خالدا رجع عن قوله هذا، وتاب إلى الله منه، وخطّأ نفسه في صراحة وشجاعة قل أن يفعلها غيره، وبيّن الدوافع التي دعته إلى ذلك، وهذا في كتابه الذي أصدره تحت عنوان (الدولة في الإسلام) .

ولكن جماعة العلمانيين الذين يعادون الشريعة، ويريدون أن نستورد قيمنا ومفاهيمنا وقوانيننا وتقاليدنا من الغرب: استغلوا كلام الشيخ خالد، ووسعوه وبنوا عليه، وإن لم ينسبوه إليه، بل خيلوا إلى قرائهم أن الفكرة فكرتهم، كما رأينا في كلام فؤاد زكريا، الذي رددنا عليه في كتبانا (الإسلام والعلمانية) .

ويؤسفني أن أقول: إن عددا من الدعاة الإسلاميين الكبار، ساعدوا العلمانيين -عن غير قصد- بقسوتهم على التاريخ الإسلامي، وتضخيم مثالبه وعيوبه، والتقليل من محاسنه ومزاياه، غفر الله لهم، ولا أعني بهذا أن أقول: إن التاريخ الإسلامي تاريخ ملائكة مطهرين، أو أنبياء معصومين،لا خطايا فيه ولا أخطاء، كما يفهم من كلام بعض المتحمسين الذي يتحدثون عن تاريخ الإسلام بعاطفة المحب، لا بعقل الباحث، فهذا ما لا يقوله عاقل، فضلا أن يقوله عالم، فالمسلمون كغيرهم من الناس يصيبون ويخطئون، ويستقيمون وينحرفون، ويعدلون ويظلمون، ولكن ينبغي أن نحكم على التاريخ بمجموع أحداثه ووقائعه، وبكل فئاته وطبقاته، وبجميع أقطاره وأمصاره، وبالمقارنة بينه وبين غيره من تواريخ الأمم في عصره، وهنا نجد تاريخنا يتميز ويتفوق على كل تواريخ الأمم في تلك العصور.

حتى العصور التي كان يعدها الغربيون عندهم  (عصور الظلام) والتي يسمونها العصور الوسطى، كانت عندنا عصور النور والعلم والحضارة والإبداع، وقد اقتبست منها أوربا جملة من أصول نهضتها، ومن توفيق الله لي: أني دافعت عن تاريخنا الإسلامي ، الذي ظلمه أهله ، في كثير مما كتبت، ولا سيما في كتبي (شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان) وكتابي (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) وكتابي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) .

إن التاريخ هو ذاكرة الأمة، وأعداء الأمة يريدون أن يمحو ذاكرتنا التاريخية، بحيث ننفصل عن ماضينا وننسى أمجادنا، ونهيل التراب على تراثنا وحضارتنا، ونبدأ من الصفر، مثل الأمم التي لا تاريخ لها. فإذا لم يستطيعوا محو ذاكرتنا: سعوا إلى إفسادها، فحشوها بمعلومات خاطئة، أو مقلوبة، أو مزورة، عن رسالة الأمة، وحضارتها وتاريخها ورجالها وتراثها؛ وبهذا تنخلع الأمة من جذورها، ويلعن آخرها أولها، وتمسي أمة بلا جذور ولا أعماق.

إن تاريخ كل أمة مادة أصلية في تربيتها لأبنائها، ولا سيما إذا كانت أمة ذات تاريخ عريق ومجيد، وكان لها دورها ورسالتها وأثرها في العالم، على أن الواجب على الأمة أن تتعلم من مآثرها وأمجادها التاريخية، كما تتعلم من أخطائها ونقاط ضعفها.

لهذا رأيت أن أتصدى للإجابة عن هذا السؤال الكبير عن تاريخنا وحضارتنا، الذي أقلق الكثيرين وحيّرهم، ليصدر في بحث مستقل، مستفيدا مما كتبته من قبل، وما كتبه المحققون والمنصفون والمعتدلون, منصفا تاريخنا وحضارتنا الثرية المعطاءة ممن قسوْا عليهما وظلموهما، أوافتروا عليهما بغير حق.

وأنا لست مؤرخا، ولكني عالم يحس بأهمية التاريخ، وضرورة تمحيصه وتوظيفه في إيقاظ الشعوب، وتحريك الهمم، وقد عددت (الثقافة التاريخية) إحدى الثقافات الست الأساسية، التي يجب أن يتسلح بها الداعية المسلم المعاصر، وذلك في كتابي (ثقافة الداعية)، وقد أرشدت في هذا الكتاب إلى تنبيهات مهمة في قراءة التاريخ ، ينبغي لكل داعية بصير أن يضعها نصب عينيه، وقد كان كبار علماء الأمة -من المفسرين والمحدثين والفقهاء- معنيين بالتاريخ، وصنفوا فيه، مثل الطبري وأبي نعيم والخطيب وابن الجوزي وابن كثير والذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم.

هذا وقد قسمت هذه الدراسة بعد المقدمة إلى خمسة أبواب:

الأول: عن جور العلمانيين على التاريخ الإسلامي، وتحريفهم له، ومساعدة بعض الدعاة في ذلك.

والثاني: عن الدولة الأموية والدولة العباسية وموقفهما من شريعة الإسلام.

والثالث: عن تاريخنا وماله من مآثر ومفاخر.

والرابع: من المسؤول عن تشويه صورة تاريخنا؟

والخامس: عن إعادة كتابة تاريخنا وكيف تكون .

وإني لأرجو بهذه الدراسة : أن أصوب خطأ شاع بغير حق، وأن أنصف أمتنا وحضارتنا وتراثنا وتاريخنا، وأن أرد الأمور إلى نصابها ، معتمدا على الحقائق لا على الأباطيل، ومستندا إلى المصادر الموثقة ، وإلى الأدلة الناصعة، لا إلى مجرد الدعاوى الفارغة، والأقوال المرسلة، رادّا كل قول إلى قائله، وكل نقل إلى مرجعه، مستفيدا من تحقيقات أهل العلم الثقات، الذين محصوا الروايات، ونخلوا الأقاويل، وردوا المبالغات والتهاويل.

أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، وأن يثقل به موازيننا عنده، وأن يسهم في تصحيح المفاهيم، وإنارة السبيل، وإنصاف الحقيقة، وأن يغفر لنا ما زل به القلم، أو شط به الفكر، وأن يأجرنا على تحرّينا واجتهادنا، إنه سميع مجيب.

يوسف القرضاوي

الدوحة: شهر رمضان المبارك 1424هـ

                  نوفمبر 2003م