الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد...
فليس أبغض إلى نفسى من استعمال الكلمات التي تلوكها ألسنة الماركسين وتبتذلها أقلامهم، وتروج في صحفهم وكتبهم ونشراتهم، ومن ذلك كلمة «الحتمية» التي تكاد تكون عنوانًا لمذهبهم، وعلمًا على اتجاههم الذي قد يسمى «الحتمية التاريخية».
ولكنى استعملت هذه الكلمة «حتمية الحل الإسلامي» من باب «المشاكلة» كما يقول علماء «البديع» في البلاغة العربية، على نحو ما جاء في القرآن من مثل قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} (الأنفال: 30) ... {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142)، {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: 14، 15)، فوصف الله سبحانه بالمكر والخداع والاستهزاء لم يكن إلا مشاكلة ومقابلة لوصف المنافقين بهذه الأوصاف.
وكذلك استعملت هنا لفظ «الحتمية» مشاكلة ومقابلة للذين ينادون في عالمنا العربي بما سموه «حتمية الحل الاشتراكي»، ولا أعني بحتمية شيء ما أنه سيقع لا محالة، فإن هذا تهجم سخيف على المجهول، لا على الإيمان فحسب، بل على العلم أيضًا، فعلم القرن العشرين يعرف «الاحتمالات» أكثر مما يعرف «الحتميات»، حتى نتائج العلوم الطبيعية نفسها غدت في نظر العلم اليوم تقريبية لا يقينية، وهذا ما اعترف به أقطاب العلم أنفسهم.
إن قولنا بحتمية أمر ما، لا يعني الإخبار بما سيقع حتمًا، بل يجب أن يقع... أو بما تدل الظواهر وطبيعة الأشياء والأحداث أنه ضروري الوقوع، وهذا هو الذي نملكه باعتبارنا بشر نحترم أنفسنا وعقولنا، والذين يعتنقون مبدأ «الحتمية التاريخية» وينادون بحتمية «التطور» لا ينتظرون حتى يأتى التطور، بل يعملون ويكافحون، ويتخذون كل الوسائل والأساليب -مشروعة وغير مشروعة- للوصول إلى مآربهم، فلماذا لا يريحون أنفسهم من مشقة العمل حتى يوافيهم التطور المحتوم إن كانوا صادقين؟
فأنا -وإن استعملت لفظ «الحتمية»- لا أريد منه ما يريده الماركسيون من الحتمية التاريخية، فالحتمية بهذا التفسيرخطأ يخالف الصواب من ناحية، ووهم يخالف الواقع من ناحية أخرى، وقد بينت الأحداث التي وقعت بعد ماركس؛ أن «ماركس» قد أخطأ الحساب، وأن حتمياته لم تتحقق كما ظن، بل وقع ما يخالفها. كما بين ذلك الدارسون للماركسية.
إنما أردت من الحتمية أن كل الظروف والملابسات والوقائع -في بلادنا العربية خاصة، وفي عالمنا الإسلامي عامة، لمن درسها دراسة علمية موضوعية- تحتم السير إلى الحل الإسلامي، بعد أن فشلت كل الحلول المستوردة وتخبطت كل الأنظمة المصطنعة، وباءت بالعجز والخيبة كل المذاهب والاتجاهات، ليبرالية واشتراكية، وأصبح تغييرها أمرًا لا مفر منه.
وهذا ما أحست به جماهيرنا العربية المؤمنة، ونادت به، بعد نكبة يونية حزيران 1967: أن لا حل ولا علاج إلا بالعودة إلى الإسلام. إن أهدافنا السياسية الكبرى -في العالم العربي كمثال- لم تتحقق، ولم تقترب منها بل زدنا عنها بعدًا، فالأمل في الوحدة العربية قد ضعف نتيجة للخلاف العقائدي بين المحافظين من دعاة اليمين، والثوريين من دعاة اليسار، وهو خلاف لا يرجى زواله إلا بزوال هذه الأفكار الدخيلة نفسها، من يمين ويسار..
ومعذرة للقارئ من استعمال هذه التسميات الدخيلة التي لم تنبت في تربتنا، بل إن اليساريين الثوريين من العرب الذين ينتمون إلى حزب عقائدي سياسي واحد، لم يستطيعوا أن يتحدوا فيما بينهم، بعد وثوبهم على الحكم في بلدين متجاورين، رغم وحدة الشعارات واللافتات، التي ثبت عجزها أمام اختلاف الولاءات والارتباطات، واختلاف المطامع والشهوات.
وقضية فلسطين لم تحل ولم تقترب من الحل، بل زادت تعقيدًا؛ نتيجة للحرب التى قادها الثوريون العرب في 5 يونية حزيران 1967، وكانت عاقبتها ما نعلم: نكبة أدهى وأمر من النكبة الأولى (1948)، وبعد تسعة عشر عامًا منها، مضت في التأهب والاستعداد ليوم الثأر ويوم التحرير، فلما جاء اليوم الموعود، لم نجد وراء الأكمة شيئًا، ولم نجد تحت القبة «شيخًا» كما يقولون، وصدق على العرب المثل القائل: «أطال الغيبة وأتانا بالخيبة»! وهكذا فشلت الثورية اليسارية العربية في سنة 1967، كما فشلت من قبلها الليبرالية اليمينية العربية في سنة 1948.
وقضية الحرية السياسة في العالم العربي في أزمة آخذة بالخناق، سواء في تلك البلاد التي تتخذ شكل النظام الديمقراطي الدستوري، والبلاد التي تتخذ النظام الاشتراكي الثوري، وإن كانت الثانية أشد ضغطًا على الحريات وأكثر فتكًا بها ووأدًا لها، بناء على فلسفة الاشتراكية وتراثها العالمي في سلب الحرية السياسية باسم الحرية الاجتماعية، وبغير ذلك من المبررات والأسماء التي لا تعجز عن اصطناعها!
وكذلك قضية الرخاء والازدهار الاقتصادي، لم تتم على النحو الذي كان مرجوًا منها، فلا تزال الطبقات الفقيرة في مجتمعنا، تشكو العوز والفاقة وضيق العيش وغلاء الأسعار، وعدم تكافؤ الفرص، وكل الذي حدث في بعض البلاد، أن زالت طبقة مترفة قديمة وورثتها طبقة جديدة مثلها أو أسوأ منها، وهكذا لم تشبع الجماهير من جوع، ولم تأمن من خوف، أما أمراضنا الأخرى من بلبلة الفكر، وسوء الأخلاق، وفساد الذمم، وضعف الوازع، واضطراب الأسرة، وتفكك المجتمع، وما شابه ذلك؛ فحدث عنه ولا حرج.
كل هذه النتائج تحتم علينا أن نسير إلى الإسلام لنحل به عقد حياتنا، ونعالج به مشكلاتنا، ونحقق في ظله أهدافنا الكبرى، وكفى ما ضاع من عمر أمتنا في التجارب والتخبطات، فإذا كنا «عربًا» فهذا الحل هو أليق الحلول بكرامتنا القومية؛ لأنه الحل النابع من عقائدنا وتراثنا وأرضنا، وإذا كنا «مسلمين» فهذا الحل هو مقتضى إسلامنا، وموجب إيماننا، ولا يتحقق لنا إسلام ولا إيمان بغير العودة إليه، والإصرار عليه؛ فوراءه فلاح الأخرة والأولى.
وإذا كنا بشرًا عقلاء نأخذ وندع وفقًا لتفكير عقولنا، واهتداء بمصلحتنا؛ فهذا الحل هو الذي ينادى به العقل المستقل، والفكر الراشد، وهو -من ناحية منطقية بحتة- الحل الذي لم يجرب بعد في ديارنا في هذا العصر، فلا بد أن تتاح له الفرصة كغيره، ليحكم ويسود، ويوجه ويقود، هذا إلى أن أمتنا قد جربته من قبل فأتى بأفضل النتائج وأطيب الثمرات.
وإذا كنا نؤمن بالديمقراطية السياسية والنزول على حكم الأغلبية؛ فإن جماهير شعوبنا لم تكفر يومًا بعدالة أحكام ربها، ولم تتخل يومًا عن قرآنها ومحمدها، لم تشك يومًا في عظمة إسلامها، وكل يوم يمر يزيديها إيمانًا بخلود هذا النظام الإلهي العادل، وإحساسًا بضرورة العودة إليه.
وإذا كنا نؤمن بمنطق الحوادث وسير التاريخ؛ فإن كل مستقرئ للصراع القائم في ديار العرب والإسلام، متتبع للعوامل التي تسير الحوادث وتصنع التاريخ، يؤكد أن الدور القادم ليس لليسار ولا لليمين، ولا للثوريين ولا للرجعين، من دعاة التبعية للشرق أو الغرب، بل للإسلام الصحيح، الشامل المتكامل، المصفى من الشوائب والزوائد.
بل إن المستقرئ، للصراع الدائر في العالم، والأزمة الروحية والنفسية التي يمر بها، والتخبط الاجتماعي الذي يرزح تحته، والتحلل الخلقي الذي يشكو منه عقلاؤه؛ يهتدي إلى أن الاتجاه الذي لا بد أن يسود العالم هو الإسلام، فقد أفلس الغرب في قيادته، وعجز عن حمل الأمانة..
والعالم اليوم في حاجة إلى رسالة جديدة تحمل حضارة جديدة، حضارة عالمية إنسانية، أخلاقية ربانية، لا شرقية ولا غربية، حضارة تجمع بين الإيمان والعلم، وتمزج بين المادة والروح، وتوفق بين حرية الفرد ومصلحة المجتمع، وليس في الغرب من يحمل هذه الرسالة، ويؤدي للعالم هذه الأمانة، لا في المعسكر الرأسمالي، ولا في المعسكر الاشتراكي، وكلاهما فرعان لشجرة واحدة، هي الشجرة الملعونة في القرآن وفي كل كتب السماء: «شجرة المادية» الخبيثة.
إنما صاحب هذه الحضارة المنشودة، وهذه الرسالة الموعودة هو الإسلام... الإسلام الذي أنشأ من قبل خير أمة أخرجت للناس، وصنع أمثل حضارة عرفها التاريخ، بيد أن الشيء الي نفتقده وتفتقده البشرية معنا هو وجود «أمة» تتمثل الإسلام وتمثله، وتتبناه منهجًا ونظامًا لحياتها، وتتقدم به إلى العالم رسالة هداية وإنقاذ.
وقد آن للشعوب العربية والإسلامية أن تتحرر من التبعية للغرب والشرق، وأن ترفض كل حل مستورد، وكل منهج دخيل، وأن تتخذ من الإسلام الصحيح حلًا لمشكلاتها ودستورًا لحياتها ... فقد جاءتهم النذر، وجاءهم من الأحداث والأنباء ما فيه مزدجر.
وآن لقادة هذه الشعوب وحكامها، وأهل الحل والعقد فيها، أن يدركوا هذه الحقيقة الكبيرة، ويعتصموا بالشجاعة الأدبية، ويعلنوها صريحة مدوية: إننا لسنا عبيدًا لليمين ولا لليسار، ولسنا ذيولًا للرأسمالية ولا للاشتراكية، ولسنا أتباعًا للشرق ولا للغرب، إنما نحن مسلمون وكفى.
ولا نرضى بغير الإسلام عقيدة ونظامًا ورابطة؛ وبهذا يصلون حاضر الأمة بماضيها، ويزيلون التناقض بين واقع الأمة وبين ضميرها وعقيدتها... وبهذا يستحقون رضوان ربهم وتحية شعوبهم وإعجاب العالم بهم، ويفوزون بخيرى الدنيا والآخرة جميعًا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33).
إن شعوبنا العربية الإسلامية لم تزل خامتها إسلامية، ولم يزل الإسلام أقوى شيء في وجودها، ولم تزل بقلوبها وعواطفها مع الإسلام، ولكنها في حاجة إلى القيادة المؤمنة التي تعرف كيف تخاطب هذه الأمة وتحركها وتستخرج أقصى ما فيها من طاقات وإمكانات مذخورة، ويوم توجد سيتغير ميزان القوى في العالم ويتحول اتجاه التاريخ، وهذا ما يقوله -ويحذر منه- الدارسون المتيقظون من الأجانب والمستشرقين.
وآخر ما قرآناه في ذلك ما كتبه المستشرق البريطاني «مونتجمري ولت» في جريدة «التايمز» اللندنية -في مارس سنة 1968- من مقال قال في نهايته: «إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام؛ فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى».
وفي هذا البحث محاولة لبيان جناية الحلول المستوردة -الليبرالية والثورية- على أمتنا، وكيف عوقت نهضتها، وسارت بها في غير الاتجاه الصحيح... كما تبين ضرورة الاتجاه إلى الحل الإسلامي باعتباره الحل الوحيد لإنقاذ هذه الأمة والحفاظ على وجودها... ملقيًا الضوء على معالم هذا الحل، ومزاياه وثمراته، وشروطه، والسبيل إلى تحقيقه، ثم دفع شبهات المرتابين والمشككين فيه، وأخيرًا بيان من هم أعداء الحل الإسلامي وما دوافعهم لعداوته، وموقفنا منهم.
وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا البحث، وأن يفتح له العقول والقلوب، وأن يهيئ لأمتنا من أمرها رشدًا، وأن يجعل يومها خيرًا من أمسها، وغدها خيرًا من يومها. آمين...
الدوحة: جمادى الأولى 1391هـ - تموز (يوليو) 1971م.
د. يوسف القرضاوي