فقه الجهاد
من مقدمة الكتاب
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على محمد خاتم رسله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحُجَّة على الناس أجمعين، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزَّروه ونصروه، واتَّبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون، وعلى كلِّ مَن سار على دربه، واهتدى بهديه، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. (أما بعد)
فإن موضوع (الجهاد في الإسلام) من أعظم الموضوعات خطرا، وأبعدها أثرا، لما له من قيمة وأهمية في الحفاظ على هُويَّة الأمة، والدفاع عن كِيانها المادي والمعنوي، وعن أرضها وأهلها، وعن رسالتها التي هي مبرِّر وجودها وبقائها، وهي رسالة الإسلام.
وبغير الجهاد يُصبح حِماها مستباحا، ودم أبنائها رخيصا رخص التراب، وتغدو مقدساتها أهون من حَفنة رمل في صحراء، وتهون الأمة عند أعدائها، فيتجرَّأ عليها الجبان، ويتعزَّز عليها الذليل، وتُغزى الأمة في عُقر دارها، ويتحكَّم أعداؤها في رقابها، فقد نزع الله من صدور عدوها المهابة منها، بعد أن كانت تُنصر بالرعب على أعدائها مسيرة شهر.
وأخطر من ذلك - أو قُل: من أسبابه - أن ترى الأمة قد أغفلت الجهاد، بل ربما أسقطت الجهاد من حسابها ومن بَرنامجها: أسقطته ماديا، وأسقطته نفسيا، وأسقطته فكريا وثقافيا. فالأمة يجب أن تعدَّ نفسها للجهاد عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ونفسيا وأخلاقيا، وإن لم تقُم بذلك تداعت عليها الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة على قصعتها. كما نبَّأنا الحديث الشريف، الذي نبَّهنا على مؤامرة دولية مرتقبة على المسلمين، رغم كثرتهم العددية، ولكنهم – للأسف - كمٌّ بلا كيف. روى أحمد وأبو داود، عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". فقال قائل: ومن قِلَّة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهْن".(1) فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".(2)
بيَّن إن سبب وَهْن الأمة وضعفها: سبب نفسي وأخلاقي في الأساس، هو: حب الدنيا وكراهية الموت، وإنما ينتصر الإسلام بقوم شرَوا الحياة الدنيا بالآخرة، وآثروا ما عند الله على ما عندهم، وآمنوا بأن الموت في سبيل الله هو عين الحياة، فبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، وهم الذين كان خالد بن الوليد يهدِّد بهم طغاة الفرس والروم، إذ يقول: وإلا غزوتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة!(3)
ولكن من الخطر والخَطَل أيضا: أن يفهم الجهاد على غير وجهه، ويوضع في غير موضعه، وتستباح باسمه دماء معصومة، وأرواح بريئة، وتستحلَّ باسمه حرمات وأموال وديار بغير حق، ويتهمَّ بسبب ذلك المسلمون والإسلام بالعنف والإرهاب والعدوان، والإسلام بريء كل البراءة من هذا الاتهام. وهذا ما حدث بعد الحادي عشر من أيلول (11 سبتمبر) 2001م. إذ أمسى الإسلام هو المتَّهم الأول بإفراز العنف والإرهاب في العالم.
وقد أوجب الإسراع بالبحث في هذا الموضوع أمران:
1- ما يتعرض له الإسلام وأمته اليوم من غارة شعواء، تريد اقتلاعه من جذوره، فقد أُعلنت عليه حرب لا هوادة فيها، شنَّتها عليه قوى الصليبية الماكرة، والصهيونية الفاجرة، والوثنية الكافرة، تقودها أعتى قوة في الأرض اليوم، متستِّرة بدعوى حرب (الإرهاب)، وهي دعوى زائفة مكشوفة العَوار؛ فإن أعظم قوة إرهابية في الأرض هي قوة الكِيان الصهيوني الغاشم، الذي قامت دولته منذ البداية على الاغتصاب والعدوان، والمذابح البشرية، والإحراق والتدمير، ومع هذا تعتبرها القوة العالمية العظمى (أمريكا) مدافعة عن نفسها، وتعتبر السفاح الأكبر (شارون) - رئيس وزراء دولتهم المدللة إسرائيل السابق - ومن بعده أولمرت - رئيس وزراء دولتهم المدلَّلة إسرائيل - رجُلَيْ سلام!! على حين ترى المقاومة الفلسطينية الشرعية - التي تدافع عن أرضها وعِرضها ومقدساتها - جماعات إرهابية عدوانية متَّهمة بكل أنواع الجرائم!!
2- غلو بعض الشباب المتحمِّسين في قضية الجهاد، من الذين اشتركوا في المقاومة الأفغانية الباسلة، للشيوعية الغازية الطاغية، بقيادة الاتحاد السوفيتي، وكانت هذه أشرف حرب وأعدلها، للدفاع عن الدين والأرض والعِرض، وكانت أمريكا ذاتها تشجِّعهم وتؤيِّدهم، وتفتح لهم المغاليق، وكذلك أقطارهم وحكامهم. فلما انهزم الاتحاد السوفيتي، وانتصر الأفغان المسلمون عليهم: بدأت أمريكا والأنظمة الحاكمة العربية والإسلامية، تقلب لهؤلاء الشباب ظهر المِجَنِّ، وأصبح مجاهدو الأمس مجرمي اليوم، وأمسوا يُستقبَلون من المطارات إلى المعتقلات. فدفعوا هؤلاء الشباب دفعا إلى أن يتَّخذوا الغلو طريقا، ويحاربوا العنف بالعنف، قائلين: الشرُّ بالشرِّ يحسم، والبادي أظلم. ولا ننكر أن منهم مَن آمن بفكرة العنف، مع الغير، كما آمن بها الخوارج من قديم. والفكر لا يقاوم إلا بالفكر لا بالعصا والسيف.
وقد تكون نيَّات هؤلاء الشباب حسنة، فكلُّهم أو جلُّهم متديِّنون مخلصون، ولكن الغلو إذا دخل أيَّ شيء أفسده، وفي الحديث: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"(4) فنشأ تنظيم القاعدة، ونشأت السلفية الجهادية، كما نشأ قبلهما جماعات الجهاد، وأصبح لها (فقه) تروِّجه، وفكر تسوِّق له، وأمسى لهم تلاميذ ومعجبون، يريدون إعلان الحرب على العالمين، فكان لا بد من الإسراع في الردِّ عليهم، وتفنيد شبهاتهم، التي بها يبسطون سلطانهم على الفتيان الذين لم يتحصَّنوا من الفقه في الدين بما يحميهم من الوقوع بسهولة في أيدي هؤلاء.
ولقد تحدَّث الكثيرون عن الجهاد، فأساؤوا فَهمه، ولم يعرفوا حقيقته وأبعاده، ولا أهدافه ومراميه، وضاعت الحقيقة في زحام القيل والقال، وأساء الكثيرون إلى الإسلام وإلى الأمة، وإلى الحضارة والتراث والتاريخ، والمشكل في كثير من قضايانا العلمية والفكرية: أن بعضا من علمائنا ودعاتنا يتبنون أحد الآراء في المسألة، وربما كان الرأي المشهور، ويعتبرونه هو الإسلام، ويجعلون دفاعهم عنه دفاعا عن الإسلام ذاته، ويعدُّون مخالفيهم فيه كأنهم هم خصوم الإسلام، ويصوِّبون إليهم سهام الطعن والتجريح المسمومة. والحق أنها وِجهات نظر لا أكثر، فلا يجوز أن يتحول البحث فيها إلى معركة يدور فيها القتال، ويقع فيها الفريقان أسرى وجرحى وقتلى!
وهذا ما رأيتُه في تناول المفكرَيْن الكبيرَيْن: أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، رحمهما الله، لقضية الجهاد، برغم حبي واحترامي الكبيرين لكليهما، لما بذلاه في سبيل الإسلام، لكنهما إذا تبنَّيا قضية، تحمَّسا تحمُّس المحامين الكبار للدفاع في القضايا الشهيرة، وصالا وجالا، بكلِّ ما يملكان من قدرة وبيان. وهما على كل حال مأجوران في اجتهادهما، أصابا أم أخطآ، وهذه من روائع الإسلام حقا.
مَن يحتاج إلى هذه الدراسة؟
إن هذا الكتاب، أو هذه الدراسة – التي تعبتُ فيها مباشرة وقصدا لعدَّة سنوات، وتعبتُ فيها بصورة غير مباشرة لعقود من السنين – يحتاج إليها الكثيرون، ليصحِّحوا موقفهم، ويصحِّحوا فَهمهم من قضايا كثيرة.
وليس عجيبا أن يغيِّر الإنسان موقفه أو رأيه في قضية من القضايا، بناء على دراسة أو قراءة، بل هذا هو شأن الإنسان الحر التفكير الذي سلم من التعصُّب والانغلاق. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته لأبي موسى: لا يمنعنَّك قضاء قضيتَ فيه اليوم فراجعتَ فيه رأيك فهديتَ فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقَّ؛ فإن الحقَّ قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل.(5)
ولا غرو أن غيَّر كثير من الأئمة والفقهاء الكبار آراءهم لأسباب شتَّى، حتى رُوي عن بعضهم في المسألة الواحدة أقوال عدَّة، ربما بلغت العشرة، أو زادت، كما في مذهب الإمام أحمد. وقد رأينا الإمام الشافعي يغيِّر مذهبه بعد أن استقرَّ في مصر في مسائل كثيرة، ولهذا يعرف عند الشافعية: قال في القديم، وقال في الجديد.
1- الشرعيون:
أول من يحتاج إلى هذه الدراسة هم: علماء الشرع، ورجال الفقه، لأن أكثرهم كوَّنوا في رؤوسهم مفاهيم رسخت، وثقافة توورثت: أن الجهاد فرض كفاية على الأمة، وأن من هذا الفرض غزو بلاد الكفار كلَّ سنة مرَّة على الأقلِّ، وإن لم يظهر منهم شيء ضدَّنا، بل مدُّوا إلينا يد المصالحة والمسالمة. وإن كان هذا الرأي يعارض آيات كثيرة صريحة في القرآن، ولكن هذه الآيات – كما أشرنا من قبل - بطل مفعولها في نظرهم، لأنها منسوخة!!
وهناك كثير مما كتبه الفقهاء إنما يعبِّر عن زمنه وبيئته، ولا يسنده قرآن ولا سنة صحيحة، مثل عدم بناء الكنائس لأهل الذمَّة أو ترميمها، ومثل تمييزهم بملابس خاصَّة، ونحو ذلك، وهذا كلُّه لا يلزم الفقيه المعاصر؛ إنما الذي يلزمه محكمات القرآن والسنة، وما أجمعت عليه الأمة بيقين، إجماعا لا يستند إلى مجرد مصلحة ظرفية يتغيَّر الحكم بتغيُّرها.
إننا بهذه الدراسة: نقدِّم لهؤلاء الشرعيين فقها جديدا أصيلا، يستمدُّ أصالته من كتاب الله، ومن صحيح سنة رسول الله، ومن تراث هذه الأمة. كما يستمدُّ جدَّته من التفاعل مع هذا العصر، وقراءة الواقع المعيش، وما في عالمنا من إنجازات هائلة، ومن انحرافات هائلة كذلك. والفقه الحقيقي أو الاجتهاد الحقيقي: إنما هو تفاعل بين النصِّ الشرعي والواقعة المعروضة، وعقل الفقيه، الذي يتأثَّر قطعا بزمانه ومكانه وعالمه.
2- الحقوقيون:
وكذلك يحتاج إلى هذه الدراسة: علماء الحقوق والقانون الدولي، الذين كوَّن كثير منهم فكرته عن الإسلام وشريعته، وخصوصا بشأن الجهاد والحرب والسلم، اقتبسوها مما هو شائع في الكتب، وما هو دائر على الألسنة والأقلام. وحق لهم، ما دام علماء الشريعة أنفسهم مشوَّشين من هذه الناحية، فكيف بغيرهم؟
ومن هؤلاء القانونيين، أناس يطلبون الحقيقة، فإذا بُيِّنت لهم بأدلَّتها، ومن مصادرها، ومن أهلها، فما أقرب ما يستجيبون لها، ويقبلون عليها، وينوِّهون بها. بل أرى بعض هؤلاء أسرع إلى الاقتناع والرجوع إلى الحقِّ من بعض المنتسبين إلى الشرع، الذين يغلب عليهم الجمود.
3- الإسلاميون:
كما يحتاج إلى هذه الدراسة - أكثر من غيرهم - الإسلاميون. وأعني بالإسلاميين: الجماعات الإسلامية المختلفة، التي تعمل لنصرة قضايا الإسلام، وهي التي يسمِّيها مَن يسميها: جماعات الإسلام السياسي!! والتي ينضوي تحت لوائها غالبا: شباب الصحوة الإسلامية في شتَّى الأقطار، داخل العالم الإسلامي وخارجه، فهذه الجماعات على اختلاف نزعاتها واتجاهاتها، ما بين معتدل ومتطرِّف: أحوج ما تكون إلى هذه الدراسة؛ وخصوصا مَن عُرفوا باسم (جماعات العنف) التي تنسب نفسها أو ينسبها الناس إلى الإسلام، وهي الجماعات التي اتَّخذت العنف واستخدام القوة العسكرية منهجا لها، وأسَّست لها فقها خاصا تُعرف به، يستشهد بالقرآن الكريم والأحاديث التي تؤيِّد وجهته، ويُعرض عن غيرها من النصوص، التي يعتبرها منسوخة أو مؤوَّلة.
كما يستدلُّ بأقوال لبعض الفقهاء التي توافقه، وتسند وجهة نظره، مغفلا ما سواها من الأقوال، فهذه الجماعات وإن كانت تتَّهم بالانغلاق على نفسها، والتعصُّب لآرائها، وعدم نظرها في فقه مَن يخالفها، مثل جماعة الجهاد، والجماعة الإسلامية، والسلفية الجهادية، وتنظيم القاعدة، وغيرهم: يمكن أن تغيِّر من أفكارها، وتعدِّل من آرائها.
ورأيي أن الإنسان هو الإنسان، مهما يتعصَّب وينغلق على نفسه، فلا بد أن يأتي وقت يراجع فيه نفسه، ويمتحن أفكاره، وخصوصا إذا خالفه الكثيرون من أهل العلم والفكر، ومنهم رجال كبار وثقات، فلا ييأس المرء من أن يثوب هذا الإنسان - ولا سيما المسلم - إلى رشده. وكثيرا ما يهديه عقله – بنصح من غيره، أو بالتأمل في فكره - إلى تغيير موقفه، والرجوع تماما عما كان عليه.
وهذا ما حدث للإخوة في (الجماعة الإسلامية) في مصر، الذين أصدروا سلسلة من الكتب تعلن تراجعهم بشجاعة عن أفكارهم القديمة، وتصحيحهم لكثير من مفاهيمهم، وعلمتُ أن إخوانهم من (جماعة الجهاد) أقدموا على مثل ذلك.(6) وكثير من الإخوة في الجزائر من الجماعات المسلَّحة، تركوا مواقعهم في الجبل، ونزلوا إلى الأرض، وانضموا إلى الشعب؛ بناء على قناعات جديدة. ومنهم مَن أعلن أنه تأثَّر بآرائي واقتنع بها.
وقد ذكرتُ أن أبناء الجماعة الإسلامية طفقوا يقرؤون كتبي، وقد كانت من المحرَّمات عليهم، وبدؤوا ينقلون منها في دراساتهم الجديدة صفحات وصفحات. وهكذا شأن الإنسان إذا رجع إلى فطرته ورشده، وزال عنه التعصُّب والانغلاق؛ ولهذا أحمل أملا كبيرا في شباب الجماعات الإسلامية المتشدِّدة أن يتراجعوا عن تصلُّبهم، ويقرؤوا الكتاب بتفتُّح وإنصاف ... وسيجدون فيه شيئا جديدا يستحقُّ أن يقرأ، وأن يدرس، وأن يناقش.
كما أرى أن المعتدلين من أبناء الصحوة الإسلامية سيستفيدون من هذا الكتاب في ازدياد اقتناعهم بموقفهم، وأن يبنوا معرفتهم على نور وبصيرة، لا على مجرد التقليد لهذا أو ذاك، وعليهم أن يدرسوه دراسة جيدة، ويتسلَّحوا بما فيه من بينات، ليقنعوا الآخرين بالحجَّة والدليل، لا بمجرد القال والقيل.
4- المؤرخون:
ويحتاج إلى هذه الدراسة أيضا: المؤرِّخون، ولا سيما المعنيُّون بالسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، والذين قرؤوا غزوات الرسول قراءة غير صحيحة ولا منصفة، واعتبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، هو الذي ابتدأ المشركين بالغزو والقتال، كما في غزوة بدر وفتح مكة وغزوة حنين، وابتدأ غزو اليهود في مواقعهم وحصونهم، كما في بني قينقاع وبني النضير، وهو أيضا الذي بادر بغزو الروم كما في غزوة تبوك.
كما اعتبروا فتوحات الصحابة والراشدين ومَن بعدهم إنما كانت ابتداء من المسلمين لجيران مسالمين لهم، من رعايا فارس والروم؛ ولهذا شاع عندهم: أن الإسلام لم ينتشر في العالم إلا بالسيف والقوَّة، ولم ينتشر بالدعوة ولا بالإقناع ولا بسلوك المسلمين، فهؤلاء في حاجة ماسَّة إلى أن يصحِّحوا مفاهيمهم هذه، التي بنَوها على قراءة خاطئة وقاصرة للسيرة والتاريخ، ليعيدوا قراءتها على ضوء ما ذكرناه في هذه الدراسة، مدعَّما بأدلَّته، موثَّقا بمصادره.
5- المفكرون:
ويحتاج إلى هذه الدراسة: رجال الفكر والبحث والتأمُّل، وخصوصا المهتمِّين بالفكر الإسلامي، وما انبثق عنه من حركات إسلامية، منها المعتدل، ومنها المتطرِّف، وما انبثق عن بعض هذه الحركات من أعمال تتَّسم بالعنف، أو توصف بالإرهاب. مما جعل بعضهم يلصق بالإسلام وحده تهمة العنف والإرهاب، كأن العنف كلَّه إسلامي، والإرهاب كلَّه إسلامي. ومن المؤكَّد أن هذا ليس بصحيح ولا صواب.
سيجد هؤلاء من أهل الفكر والبحث في هذه الدراسة ما يردُّ الأمور إلى جذورها، والفروع إلى أصولها، ويبيِّن أن تعاليم الإسلام الحقيقية، أبعد ما تكون عن العنف والإرهاب – بمصطلحهم – وأن لهذا العنف أسبابا بعضها خارجي، وبعضها داخلي، وأن دعاة العنف قلَّة بين المسلمين، تدينهم الأكثرية وتنكر عليهم. ولا سيما أهل السنة والجماعة الذين يعتبرون هذا اللون من الفكر الذي يتَّسم بالغلو، وتنجم عنه تصرفات تتَّسم بالعنف، إنما هو ميراث من غلاة الخوارج، الذين ذمَّتهم الأحاديث، وحاربهم علي رضي الله عنه وغيره من الخلفاء، وعدَّتهم الأمة مبتدعين، منحرفين عن صراط الإسلام المستقيم، بل منهم مَن اعتبرهم في عداد الكافرين المارقين.
6- المستشرقون:
ويحتاج إلى هذه الدراسة: غير المسلمين من رجال الاستشراق والمهتمِّين بالدراسات الإسلامية، سواء كان أساس هذا الاهتمام معرفيا، لمجرَّد اكتشاف الحقيقة، أم سياسيا لخدمة أهداف معيَّنة لدولة ما، أو للغرب عامَّة، أم كانت دوافعه دينية، لخدمة الكنيسة وفكرة (التنصير) الذي اجتمع رجاله من البروتستانت في (كلورادو) سنة 1978م في صورة مؤتمر هدفه تنصير المسلمين في العالم.
هؤلاء صوَّروا الإسلام: أنه خطر على العالم، وسلام العالم، واستقرار العالم، وأن فريضة (الجهاد) فيه تلزم المسلمين أن يحاربوا العالم كله. وقد أثبتت هذه الدراسة بطلان هذا كله، وأن الإسلام أعظم دين يدعو إلى السلام، ويرغِّب في السلام، ويربي أبناءه على حبِّ السلام، وإفشاء السلام، امتثالا لأمر الملك القدوس السلام، وابتغاء دخول الجنة دار السلام.
7- الحواريون:
كما أن هذه الدراسة يحتاج إليها: المهتمُّون بحوار الأديان، أو حوار الثقافات والحضارات، فهي في رأيي تقدِّم لبنة مهمة في بنيان هذا الحوار، الذي يقوى حينا ويضعف حينا، وينهض حينا، ويتعثر أحيانا، نظرا لقصور الرؤية من بعض الأطراف لبعض، وغلبة العصبية على العقل، وانتصار الفكر الموروث على الفكر الحرِّ. ولا يمكن أن يتحاور الناس إذا كان بعضهم يجهل بعضا، وخصوصا بالنسبة للمسلمين الذين يُتَّهمون بأنهم دعاة عنف، وأنهم نشروا دينهم بالسيف، وأن موقفهم أبدا رفض الآخر. وقد رأينا البابا بنديكت السادس عشر يتبنى ذلك في محاضرة له بألمانيا.(7) فلعل هذه الدراسة العلمية الموثقة تفتح لهؤلاء صفحة جديدة، وتمكِّنهم من رؤية جديدة، تتغيَّر فيها نظرتهم إلى الإسلام، وإلى أمته، وإلى حضارته.
8- السياسيون:
كما يحتاج إلى هذه الدراسة: رجال السياسة وصناع القرار في العالم، والذين يتَّخذون قراراتهم الهائلة، والتي تتعلَّق بمصاير أمم، وأرواح بشر، ومقدَّرات شعوب، ومقدَّسات أديان، بناء على تصورات فكرية عندهم لدين لم يعرفوه، ولم يقرؤوا كتابه، ولم يفقهوا سيرة نبيه، ولم يدرسوا تاريخه، ولم يحيطوا بشيء ذي بال عن عقيدته وشريعته، ولواقع أمة كبرى ذات شعوب مختلفة، وأوضاع مختلفة، لم يعطوا لأنفسهم مهلة أن يتفهَّموا هذا الواقع، ويقرؤوه قراءة بصيرة متأنية، منصفة متوازنة، بلا تهويل ولا تهوين، ولا تحريف، ولا تزييف.
لا شكَّ فيه: أن الرئيس الأمريكي (بوش) الابن ومَن معه من المحافظين الجدد، أو اليمين المسيحي المتصهين، حين أعلنوا حربا كونية على الإسلام وأمته، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، كان هذا القرار السياسي، نتيجة لتصوُّر خاطئ عن الإسلام، وعن حقيقة الجهاد فيه، وأن فئة قليلة فهمت الجهاد على غير وجهه، ووضعته في غير موضعه، وأن من أكبر أسباب غلوِّها وتجاوزها: المظالم الكبيرة التي وقعت على المسلمين من الغرب عامَّة، ومن أمريكا خاصَّة.
9- العسكريون:
وإذا كان السياسيون محتاجين إلى هذه الدراسة، ليكوِّنوا رأيا صحيحا نيِّرا عن الجهاد، فكذلك يحتاج إليها: العسكريون من المسلمين وغير المسلمين، فمَن فهم الجهاد على غير حقيقته من قادة العسكريين الغربيين، مثل رجال البنتاجون في أمريكا، وأكثر الجنرالات في أوربا، بل في العالم كلِّه للأسف الشديد، فعليه أن يقرأ هذا الكتاب، وعلينا أن نترجمه لهم، ونقرِّبه إليهم بلسانهم لنبيِّن لهم حتى يفهموا. وكثير منهم إذا رأى المنطق أمامه ناصعا خضع له، ولم يستطع أن يكابر، حتى لو كابر أمام الناس سينهزم أمام نفسه. وهذا مكسب كبير.
وهذا ليس مقصورا على العسكريين الأجانب، فكثير من قادتنا العسكريين في بلادنا، ومن بني جلدتنا، وممَّن يتكلَّمون بلساننا، ليست لديهم فكرة سليمة عن الجهاد في الإسلام، وعن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن فتوحات الصحابة والمسلمين في العهود الأولى؛ وذلك بتأثير سلطان الفكر الغربي، والثقافة الغربية على المثقَّفين في أوطاننا، عسكريين ومدنيين.
ومن الواجب على أهل العلم والفكر: أن يصحِّحوا - ما استطاعوا – المفاهيم المغلوطة والشائعة، أداءً الأمانة، وتبليغا للرسالة، وتحصينا للأمة.
ومن العسكريين الذين يحتاجون إلى هذه الدراسة: العسكريون الإسلاميون من أهل الشطط أو الاعتدال، ممَّن يقاتلون في فلسطين، وفي لبنان، وفي العراق، وفي أفغانستان، وغيرها من ديار الإسلام، سواء كانوا من أهل الشطط أم من أهل الاعتدال.
فأما أهل الشطط والغلو، إذا وفَّقهم الله لفقهه والعلم فيه، فسيتعلَّمون منه متى يجوز القتال ومتى لا يجوز؟ أو مَن يجوز أن نحاربه ومَن لا يجوز؟ وإذا حاربنا فما الذي يجوز لنا في الميدان وماذا لا يجوز؟ متى يجوز أن نقتل، ومتى يجب أن نأسر، وما الذي نفعل مع أسرانا؟ وماذا نفعل عند الانتصار، وماذا نفعل عند الانكسار؟ إلخ.
وأما أهل الاعتدال من المجاهدين، الذين يقاومون المحتلِّين والمعتدين على أراضيهم، فهم أيضا لا يستغنون عن هذه الدراسة، حتى يتقيَّدوا في حربهم وسلمهم، وفي حال قوتهم وضعفهم، وفي حال انتصارهم أو انهزامهم بشريعة الإسلام، فهم يقاتلون بالإسلام وللإسلام، وعلى أساس من الإسلام. فإذا قال لهم الإسلام: قاتلوا. قاتلوا، وإذا قال لهم: توقفوا. ألقوا سلاحهم، وإذا قال لهم: اجنحوا للسلم. جنحوا لها وتوكلوا على الله.
وسيجدون في هذا الكتاب ما يبصِّرهم بما يجب عليهم، وما يجوز لهم، وما يحرم عليهم، وهم وقَّافون عند حدود الله تعالى، نازلون عند حكم الله، يحلُّون ما أحلَّ الله، ويحرِّمون ما حرَّم الله، ويأتمرون بما أمر الله، وينتهون عما نهى الله. كما قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (النور:51).
10- جمهور المثقفين:
ويحتاج إليه أخيرا جمهور الناس من القرَّاء والمثقَّفين العاديين غير المصنفين، من المسلمين ومن غير المسلمين. فهؤلاء الذين يمثلون القاعدة العريضة من الأمم والشعوب، في حاجة أيضا إلى أن يعرفوا حقيقة موقف الإسلام من العالم، وحقيقة الجهاد في سبيل الله، الذي فهمه الكثيرون خطأ، وأنه ليس إلا إعداد القوة المادية والمعنوية للحفاظ على كيان الأمة وهُويَّتها وعقيدتها وأرضها وأهلها وحرماتها، وأن كلَّ أحكامه وتصرفاته منضبطة بقوانين أخلاقية صارمة، فلا يقاتل إلا مَن يقاتل، ولا يعتدي على أحد، ولا يبرِّر خبث الوسائل بنبل الغايات، ولا يقبل ازدواج المعايير؛ وهذا ما يجب أن يعرفه المسلم العادي ليلتزم به، وغير المسلم العادي، ليتعامل مع الإسلام وأهله عن بينة، ولا يحمل عن الإسلام وشريعته فكرة زائفة، فيظلم الإسلام، ويظلم المسلمين، ويظلم نفسه، ويظلم الحقيقة.
الدوحة في: محرم 1428هـ - يناير 2008م
الفقير إليه تعالى
يوسف القرضاوي
.....
(1) الوَهْن بسكون الهاء – وتحرَّك: الضعف في العمل أو في الأمر أو في العظم.
(2) رواه أحمد في المسند (22397)، وقال مخرِّجوه: إسناده حسن، وأبو داود في الملاحم (4297)، وابن أبي شيبة في الفتن (38402) موقوفا، والطيالسي في المسند (1/133)، والبيهقي في الشعب باب الزهد (7/297) موقوفا، والطبراني في مسند الشاميين (1/344)، عن ثوبان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه وإسناد أحمد جيد (7/563)، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (958). ومن المعلوم: أن الموقوف هنا له حكم المرفوع؛ لأنه مما لا مجال للرأي فيه، إذ هو إنباء عن الغيب.
(3) رواه ابن أبي شيبة في البعوث والسرايا (34417)، وأبو يعلى في المسند (13/113)، وسعيد بن منصور في رسائل النبي (2/191)، عن الشعبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى وفيه مجالد وهو ضعيف وقد وثق (6/325) .
(4) رواه أحمد في المسند (1754)، والنسائي (3007)، وابن ماجه (3020)، كلاهما في المناسك، عن ابن عباس.
(5) انظر: رسالة عمر لأبي موسى في إعلام الموقعين (1/86).
(6) وقد نشرت الصحف المصرية في الآونة الأخيرة، لرمزهم المعروف د. سيد إمام، نص (الوثيقة) التي أعلن فيها تراجعه عن أفكاره القديمة، وتبنِّيه لما يعارضها ويضادها، وإن لم يستند فيها إلى أدلَّة شرعية وموثَّقة، كما استند إخوانه في الجماعة الإسلامية. والمقام لا يتَّسع لنقل شيء من بنود هذه الوثيقة ومناقشتها، وقد يتاح لنا ذلك فيما بعد إذا يسَّر الله.
(7) رددنا عليه ردًّا علميا موثقا في كتابنا (البابا والإسلام) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة.