د. يوسف القرضاوي
نوعان من المفاهيم هما خطر على المجتمع والمجتمع المسلم اليوم يجب أن يتحرر من نوعين من المفاهيم الدخيلة عليه، سيطر كل نوع منهما على عدد من الناس : بعضها سيطر على العامة , والآخر سيطر على الخاصة , أو النخبة .
النوع الأول: المفاهيم التي دخلت على الإسلام وعلى مجتمعاته في عصور التخلف وسوء الفهم للإسلام . مثل المفاهيم إلى شاعت وسادت من التوكل بأنه التواكل , ومن الزهد بأنه ترك الحياة لغير المؤمنين , وعن الإيمان بالقدر بأنه ضرب من الجبرية , وعن الفقه بأنه نقل ما قاله الأقدمون , وعن الاجتهاد بأنه باب قد أغلق , وعن العقل بأنه نقيض النقل , وعن المرأة بأنها أحبولة الشيطان , وعن بركة القرآن أنها في تعليقه للحفظ من العين أو من الجان , وعن بركة السنة أنها في قراءة البخاري عند الأزمات , وعن الأولياء والكرامات وما شاع حولها من اعتقادات وأفكار تناقض سنن الله في الأنفس والآفاق. إلى غير ذلك من المفاهيم التي سادت في زمن الركود العلمي , والجمود الفكري , والتقليد الفقهي , والاجترار الكلامي , والانحراف الصوفي , والاستبداد السياسي , والانتكاس الحضاري .
والنوع الثاني: المفاهيم التي زحفت على مجتمعاتنا , مع زحف الاستعمار، فدخلت من بابه، وسارت في ركابه، واتخذت الغرب لها قبلة وإماماً، ولم يكن لنا بها عهد ولا خطرت لنا ببال. إنها المفاهيم المتعلقة بالدين والدنيا , والرجل والمرأة , وبالفضيلة والرذيلة , بالتحرر والجمود , وبالتقدم والرجعية , وبالحلال والحرام .
المفاهيم المتعلقة بالحدود الفاصلة بين حرية الفكر , وحرية الكفر , بين حرية الحقوق , وحرية الفسوق , بين العلمية والعلمانية , بين الدولة الدينية والدولة الإسلامية . إنها المفاهيم الغزو الفكري , التي تعتبر الإيمان بالغيب تخلفنا , والتمسك بالسلوك الديني تزمتاً , والدعوة إلى تحكيم الشريعة تطرفا , والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تدخلاً في شؤون الآخرين , واختلاط الرجل بالمرأة - بلا قيود- تحرراً , وعودة المرأة المسلمة إلى الحجاب الشرعي رجعية , والانتفاع بالتراث تعصبا , واعتبار علما ء الدين حرس التخلف , ودعاة ( التغريب ) أعلام (التنوير).
والواجب على الدعاة والعلماء والمفكرين الإسلاميين أن يقدموا الأفكار والمفاهيم الشرعية الإسلامية الصحيحة الأصيلة لتحل محل الأفكار والمفاهيم الغربية الدخيلة , سواء دخلت قديماً أم حديثاً . فكلتاهما لا تمثل الإسلام الصحيح : الأفكار القديمة المتعفنة , والأفكار المستوردة الغازية المدمرة، أو - بتعبير الأستاذ مالك بن نبي - : الأفكار الميتة , والأفكار المميتة .
ومن ناحية أخرى إذا نظرنا إلى القضية في ضوء الوسطية والتطرف , فعلينا أن نتبنى مفاهيم التيار الوسطى , الذي تحدثنا عنه في كتب أخرى , ونرفض التطرف , سواء أكان إلى الغلو والإفراط , الذي تمثله بعض الفضائل الإسلامية أم إلى التقصير والتفريط الذي تمثله الشرائح العلمانية والمغتربة في أوطاننا , وهى متفاوتة في تأثرها بالعلمانية والتغريب , بعضها قريب جدا , وبعضها بعيد جداً , وبعضها بين بين .
لقد ذكرت ثمانية عشر مفهوماً أساسيا عن الإسلام في كتابي ( الإسلام والعلمانية ) أردت بها تحديد ملامح الإسلام الذي ندعو إليه , حتى لا يزعم زاعم إننا ندعو إلى إسلام غامض , أو مجهول , أو ( هلامي ) قابل لأن يفسر( من شاء) كما شاء! وقدمت مجموعة إسلامية مستنيرة رؤية إسلامية معتدلة صاغها الأستاذ الدكتور أحمد كمال أبو المجد , وأنا موافق عليها في جملتها , وان كنت قد أخالف في بعض التفصيلات .
وهذا الكتاب ذاته يقدم ملامح عن المجتمع المسلم الذي ننشده في ضره مفاهيم المدرسة الوسطية التي تراخى بين العقل والنقل , وتربط بين الدين والدنيا , وتوفق بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر , وتوازن بين الثوابت والمتغيرات وتجمع بين السلفية والتجديد , وتستلهم الحاضر , وتستشرف المستقبل , وتزمن بالانفتاح في غير ذوبان , والتسامح في غير تهاون.
............
- عن كتاب "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لفضيلة الشيخ.