عبدالرحمن الدويري
الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي كابوس الطغاة، وغُصَّة الأنظمة المدّعاة، وكاشف النقاب عن وجه الدّجل والنفاق، وعن أبواق الإعلام المرجف ومؤسسات الارتزاق.
منذ 45 عاما يقبع المسجد الأقصى تحت نير الاحتلال، لم تُقدم له النظم العربية العتيدة في العلن غير الوعود بالرعود، أما في الخفاء فقد بقيت على وئام تام مع إرادة الغرب ورغبة اليهود، ولم تكن قضية زيارته وشد الرحال إليه محل خلاف عند العلماء، وظل الإجماع قائما على عدم جواز ذلك، وذهب الرأي إلى تخوين كل زعيم يجرؤ على مثل هذه الخطوة، ولا أدل على ذلك من زيارة الهالك محمد أنور السادات الذي كان له الفضل في فتح الطريق لقطيع البقر كي يلتحق بالثور على رأي الشاعر أحمد مطر.
لم يأت القرضاوي بجديد في فتواه بعدم جواز زيارة المسجد الأقصى تحت سلطة الاحتلال، إذ سبقه إليها جمهرة من علماء الأمة المعتبرين القدماء والمحدثين على السواء، لكن الجديد في الأمر هو تلك الحملة التي تدور رحاها حول شخص العلامة القرضاوي لا فتواه.
إنه منهج العاجز، وأسلوب المخادع، حين يبتعد القوم عن الخوض في لب المسألة، وينحرفون باتجاه تجريح الشخص، واغتيال الشخصية، وابتزاز العاطفة، وتلبيس الحق بالباطل.
لم نرَ أحدا مِمَّن يخالفون القرضاوي في فتواه يقدم دليلا واحدا مقنعا ومعتبرا على طريقة العلماء في تحري الحق، وتتبع أثر الصواب، وكل الذي رايناه، ألسنة طويلة بالأذى، أفواها نافخة على جمر الباطل ليحرق صفحة الحق، ويطيح بعمود خيمة العلم في زمن تزاحمت فيه اللحى والعمائم، على الأبواب التي أبطلت الشريعة, وسرقت الشرعية.
ليس القرضاوي معصوما في كل ما أتي به من فتوى، وأفاض به من علم، لكنه عالم العصر بلا منازع وبإجماع أهل العلم في هذا الزمان، وليس الآن مجال التدليل على ذلك بسرد الإنتاج العلمي ومجالات التفوق، والجوائز العلمية التي حصدها الرجل، لكن مَن كان له رأي في الأمر فليقدم دليله على منهج أهل العلم، وليلبس لباس الأدب، وليقصد الحق في مسعاه، وليقف عند حدّه إن اتضح له الصواب، وانكشف له وجه الحق.
لست مفتيا، ولا ينتظر القرضاوي أن ينتصر له أمثالي، لكنها الغيرة تشتعل في النفس المؤمنة عندما ترى الجهل يتبجح، والرعونة تنتفش، تلك الغيرة التي أعادتني إلى عاطر الذكر، وعبرة الفكر من مسيرة خير القرون:
ففي الحديبية بعث النبي عثمان بن عفان ليفاوض قريشا، ويستطلع خبرهم، فأقام بمكة ثلاثا يدعو أهلها، فلما فرغ قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف - وهو محرم-فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعض المسلمين قال قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان مِن بيننا إلى البيت فطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون”، قالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه؟ قال: “ذلك ظني به ألاّ يطوف بالكعبة حتى نطوف”، فلما رجع قال المسلمون له: اشتفيت من البيت يا أبا عبدالله؟ فقال عثمان: بئس ما ظننتم بي، فوالذي نفسي بيده لو مكثت مقيما بها سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان البيت الحرام يومها بيت قريش، وكان سادتها يتنافسون في شرف خدمته، ولم تكن قريش من وجهة نظر دولية محتلة له أو معتدية عليه، وكان مقدم النبيّ الكريم وصحبه الكرام لزيارته خطوة دبلوماسية رائدة لانتزاع اعتراف من سلطة قريش بسلطة الكيان الإسلامي الجديد، وحملها على الاعتراف به، ومن هنا لم يبح عثمان لنفسه أن ينفرد بالطواف بالبيت؛ لأنه بذلك يؤكد لقريش انفرادها بالمسؤولية عن البيت الحرام، ويعترف بسلطتها المطلقة عليه، ويفرغ تحرك المسلمين من مضمونه.
لقد كان عثمان عند ظن زعيمه صلى الله عليه وسلم: “ذلك ظني به ألاّ يطوف بالكعبة حتى نطوف”، فما حجة الناعقين على القرضاوي وهو يقول: إن الأقصى معمور بأهله، وليس بحاجة إلى أفواج من المعترفين لليهود بالشرعية، يأخذون إذنها بالعبور والمغادرة؟!!
ما حجة الناعقين اليوم؟!! والقدس بيد محتل غاشم، يبذل جهودا جبارة لانتزاع اعتراف الشعوب الإسلامية بشرعية وجوده، بعد أن اعترفت به نظم العمالة، ويقيم الدنيا ولا يقعدها في وجه حماس والفصائل المجاهدة لأنها تصرّ على عدم الاعتراف بشرعية وجوده.
كفاكم أثما أيها المجنّدون بأيدي نظم العار العربي، وكفاكم دجلا ووقاحة.
لا تتعبوا أنفسكم، فقد أذن الله للحق أن تتجلى صورته وتبصرها عيون التائهين، ولن تستطيع كل قوى الظلام على حجبها من جيد.
ارحموا أنفسكم ولا تكثروا على الشيخ، فنخلته ثابتة بما ترتكز عليه من الحق، وأشفقوا على أنفسكم، فلو اجتمع لكم كل ذباب الأرض وبغاث الطير في صعيد واحد، واجتهدت بأجنحتها لتثير عاصفة تقتلع نخلة الحق، أو تهز أركانها، فلن تستطيع، وستنتحر جميعا في محاولاتها البائسة دون أن تقطع عذقا منها، أو تحرك سعفه.
----------
- عن صحيفة السوسنة الأردنية، 23/3/2012م.