د, يوسف القرضاوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ابتع هداه.. أما بعد: فإن المرأة – بمنطق الإحصاء والتعداد – نصف المجتمع، ولكنها بحكم تأثيرها في زوجها وأولادها ومحيطها، أكثر من النصف، ولهذا قال الشاعر العربي:
الأم مدرسة إذا أعددتها      أعددت شعبا طيب الأعراق!

وحتى نبوغ الرجال، نرى من الحكماء من يرجع الفضل فيه إلى معاونة النساء، فقالوا: وراء كل عظيم امرأة. وفي الجانب الآخر نرى من الفلاسفة من يحمل المرأة تبعة ما يحدث في العالم من الفتن والجرائم، حتى قال من قال عندما تحدث مصيبة أو جريمة : فتش عن المرأة!

والناس – قديما وحديثا – منقسمون بين نصير للمرأة حسن الظن بها، وبين عدو لها. فنجد من الشعراء من يقول:
إن النساء رياحين خلقن لنا     وكلنا يشتهي شم الرياحين!

وآخر يقول:
إن النساء شياطين خلقن لنا      نعوذ بالله من شر الشياطين!

ونجد من الفلاسفة من يشيد بالمرأة، ويتغني بها، ويعدد فضائلها ومآثرها في الأسرة والمجتمع.

ومنهم من ينظر إليها بمنظار أسود قاتم، يجعل منها جرثومة الشر في العالم.

حتى أن العلم الذي يهدي الضال، ويقوِّم المُعْوَج، اعتبره المتشائمون رذيلة بالنسبة للمرأة. رأى بعضهم امرأة تتعلم الكتابة فقال: أفعى تُسقى سما؟!

وأكثر من ذلك أنهم وضعوا على كاهل المرأة وحدها عبء الشقاء الذي عانته وتعانيه البشرية منذ خلق آدم إلى قيام الساعة؛ لأنها – في زعمهم- هي التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة وانتهاك ما نهى الله عنه، حتى أخرج وذريته من الجنة، وأهبط إلى هذه الأرض ليكدح ويشقى.

وقد وجدوا في أسفار العهد القديم المقدسة عند اليهود والنصارى ما يؤيد هذه التهمة، ويحمل المرأة هذه التبعة.

وإذا جئنا إلى الإسلام وجدناه يرتفع بقيمة المرأة وكرامة المرأة باعتبارها ابنة وزوجة وأما، وعضوا في المجتمع، وقبل ذلك كله باعتبارها إنسانا.

فالمرأة مكلفة كالرجل، مخاطبة بأمر الله ونهيه مثله، مثابة ومعاقبة كما يثاب هو ويعاقب. وأول تكليف إلهي صدر للبشرة خوطب به الرجل والمرأة معا حين أسكنا الجنة، وقال الله لهما : {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة : 35].

وليس في القرآن –كما في التوراة- ما يجعل المرأة مسؤولة عن خطيئة آدم بل المسؤولية الأولى مسؤولية آدم، والمرأة إنما هي تبع له. {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: 115]، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}[ص: 122،121].

إن المرأة في نظر الإسلام ليست خصما للرجل، ولا منازعا له، بل هي مكملة له، وهو مكمل لها، هي جزء منه وهو جزء منها، وفي هذا يقول القرآن : {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}[آل عمران: 195]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال"(1).

ولا يتصور أن يكون في الإسلام أي انتقاص لحق المرأة، أو حيف عليها لحساب الرجل، فإن الإسلام هو شريعة الله سبحانه، وهو رب الرجل والمرأة جميعا.

بيد أن مما يؤسف له: أن بعض الأفكار القاتمة عن المرأة قد تسربت إلى عقول طائفة من المسلمين، فساء تصورهم لشخصية المرأة ولدورها وساء – تبعا لذلك - سلوكهم في معاملتها وتعدوا حدود الله في ذلك فظلموا أنفسهم، وظلموها، وخصوصا في عصور التخلف التي بعدت الأمة فيها – إلا من رحم ربك - عن هدي النبوة، ووسطية الإسلام، ومنهج السلف، الذي يتميز باليسر والاعتدال.

وإذا نظرنا إلى عصرنا هذا، نجد عندنا آفة غلبت على حياتنا الفكرية، طالما شكا منها أولو الألباب وهي: أننا في كثير من قضايانا – بل في أكثرها – لا نقف الموقف الوسط، الذي سماه القرآن {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بل نقف – في الأعم الأغلب - في طرفي الغلو والتقصير، أو الإفراط والتفريط، مع أننا نقرأ قول الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143] ونتداول الحكمة المأثورة (خير الأمور أوسطها) وروي قول علي رضي الله عنه : عليكم بالنمط الأوسط، يرجع إليه الغالي، ويلحق به التالي(2).

وقضية المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية مثل بارز يجسد موقفي الغلو والتقصير، أو الإفراط والتفريط.

فهناك المقصرون في حق المرأة الذين ينظرون إلها نظرة استهانة واستعلاء فهي عندهم أحبولة الشيطان، وشبكة إبليس في الإغواء والإضلال، وناقصة العقل والدين.

وهم يعتبرونها مخلوقا ناقص الأهلية، وهي عند الرجل أمة أو كالأمة، يتزوجها لمتعة إن شاء، ويمتلك بضعها بما يدفع من مال، ويطلقها متى أراد، دون أن تملك له دفعا، ولا تستحق عن ذلك متاعا ولا تعويضا حتى عبر بعضهم بأنها كالنعل، يلبسها متى أراد، ويخلعها متى أراد.

وهي إذا تزوجت الرجل، فكرهته، ولم تطقه بغضا ونُفرة، فليس لها إلا أن تصبر على مضض، وتتجرع مرارة الحياة على كُره، حتى يَرضى بطلاقها أو خُلعِها، وإلا فلا حيلة لها ولا وسيلة للخلاص من نير عبوديته.

وبعض هؤلاء رجع إلى عهد الجاهلية قبل الإسلام، فلا يجعل لبناته في الميراث حقا، ويكتب تركته بيعا وشراء لأبنائه الذكور، أما الإناث فما لهن من نصيب.

لقد حبسوها في البيت، فلا تخرج لعلم ولا عمل، ولا تساهم في أي نشاط نافع يخدم مجتمعها، مهما يكن نوعه. حتى صور بعضهم المرأة الصالحة بأنها لا تخرج من بيتها إلا مرتين: مرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومرة من بيت زوجها إلى قبرها!

هذا مع أن القرآن جعل حبس المرأة في البيت عقوبة لمن تأتي الفاحشة ويشهد عليها أربعة من المسلمين، وذلك قبل استقرار التشريع على حد الزنى المعروف، يقول القرآن: {وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }[النساء :15].

حرموها من الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، وقالوا: إن على أبيها أو زوجها أن يفقهها ويعلمها، فحرموها من نور العلم، وحكموا عليها بالبقاء في ظلمة الجهل، ولم يعلمها أب ولا زوج، لأن الأب والزوج نفسه كان في حاجة إلى من يعلمه، وفاقد الشيء لا يعطيه، وقد ضل من كانت العميان تهديه!

هذا مع علمه أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة والسلف من بلغن مكانا عظيما في العلم والفقه ورواية الحديث، بالإضافة إلى الشعر والأدب، وفنون القول.

وقد وجد من علمائنا من يقول: حدثني الشيخة المسندة الصالحة فلانة بنت فلان.

وقد كانت (كريمة بنت أحمد  المروزية) إحدى راويات صحيح البخاري، ونسختها إحدى النسخ المعتمدة، التي نوه بها الحافظ بن حجر العسقلاني في (فتح الباري).

حتى المساجد منعوها من الذهاب إليها لحضور صلاة أو موعظة، مع علمهم بأن النساء في العصر النبوي  كن يشهدن الجماعة، حتى في العشاء والفجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال بصريح العبارة : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" رواه مسلم.

والعجيب أن بعض النساء إلى اليوم محرومات من هذا الحق الذي تمارسه كل من تنتسب إلى دين آخر غير الإسلام، فاليهودية تذهب إلى البيعة، والنصرانية تذهب إلى الكنيسة، والبوذية أو الهندوسية تذهب إلى المعبد. والمسلمة وحدها، هي المحرومة من الذهاب إلى المسجد.

حرموها من مشاركة الأب أو الزوج فيما تستطيع المشاركة فيه من أعمال الحياة المشروعة، كما صح ذلك عن بعض نساء الصحابة مثل أسماء ذات النطاقين مع زوجها الزبير.

وأوضح من ذلك، ما حكاه القرآن الكريم عن ابنتي الشيخ الكبير في سورة القصص حيث رعيا الغنم وسقياها. وكلمتا موسى وكلمهما، وقالت إحداهما لأبيها بصراحة وشجاعة: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26] فوضعت بكلماتها هذه الموجزة أسس اختيار الرجال للأعمال. وكثيرا ما استندوا في حبس المرأة إلى متشابهات من النصوص، تاركين المحكمات البينات. فنراهم يحتجون بالآيات الواردة في (نِسَاء النَّبِيِّ) من سورة الأحزاب مثل قوله تعالى لهن: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}[الأحزاب:33،32] وقوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}[الأحزاب:53].

وحرموا المرأة كذلك في أحيان كثيرة من حقها في اختيار من يكون شريك حياتها، أو على الأقل حقها في الموافقة عليه أو رفضه، إذا عرضه عليها وليها.

فوجد من الآباء من يزوج ابنته بغير رضاها، بل بعير استشارتها واستشفاف رأيها، مجرد استشفاف!

وهذا – للأسف ما نص عليه مذهب الشافعية والمالكية، وجمهور من الحنابلة، بناء على أدلة لا تقوى على المناقشة، ولا تصمد أمام حجج الخصوم، حتى رفضها رجل مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم.

وكم استغلوا في هضم حق المرأة، وإعطائها دون مكانتها أحاديث صحيحة وضعوها في غير موضعها، واستدلوا بها في غير ما سيقت له، كالحديث الذي طالما اتخذوه عكازا يتوكئون عليه في تبرير نظرتهم إلى المرأة وهو حديث وصفهن بأنهن ناقصات عقل ودين. وسنعود له بعد.

وحديث: "لو كنت آمرا بشرا يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"(3).

ولم يكتفوا بذلك فجاءوا بأحاديث لا خُطُم لها ولا أَزِمَّة، ولا يعرف لها أصل ولا سند، أو أحاديث واهنة شديدة الوهْن، أو موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مثل حديث سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة الزهراء: "أي شيء أصلح للمرأة؟" فقالت: ألا ترى رجلا ولا يراها رجل! فقبلها ثم قال: "ذرية بعضها من بعض"! وهو حديث لا يساوي المداد الذي كتب به.

ومثل حديث "شاوروهن وخالفوهن" وهو حديث لا أصل له.

وهو مخالف لما جاء في القرآن من تشاور الوالدين : الأب والأم جميعا، في فطام الطفل وفصاله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}[البقرة: 233].

كما أنه مخالف لما ثبت في صحيح السنة والسيرة من مشاورته صلى الله عليه وسلم لزوجه أم سلمة في غزوة الحديبية، وأخذه برأيها، الذي كان فيه الخير والصواب.

ومثل روايتهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قوله : "المرأة شر كلها وشر ما فيها أنه لا بد منها"! وقد بينت بطلان هذا القول، في بعض ما كتبته من قبل(4) .

ومثل ما رواه الحاكم في مستدركه بسنده: "لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة".

وهو حديث حكم عليه النقاد بالوضع، قال الحاكم : صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله : بل موضوع , وآفته عبد الوهاب(5).

-------

(1) رواه أحمد (26195)، ورواه أبو داوود (236)، والترمذي (113) كلاهما في الطهارة عن عائشة.

(2) ذكره الغزالي في أحياء علوم الدين وأخرجه أبو عبيد في غريب الحديث موقوفا على علي بن أبي طالب وليس له سند )تخريج أحاديث الإحياء - (ج 1/ ص 188 ( .

(3) رواه أحمد (12614) وقال مخرجوه: صحيح لغيره. وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (1936) عن أنس.

(4) في كتابنا  فتاوى معاصرة (ج1/421-426).

(5) للمزيد من التوضيح ارجع إلى السلسلة الضعيفة للألباني (5/31).