د. يوسف القرضاوي

كما تميز المجتمع المسلم بما يسوده من أفكار ومفاهيم، يتميز أيضاً بما يسوده من مشاعر وعواطف. فهناك مجتمعات تسودها مشاعر الحقد الطبقي، ومجتمعات تسودها مشاعر التميز العنصري، ومجتمعات تسودها مشاعر العصبية القومية.

ونجد المجتمعات تتفاوت كذلك في مشاعر الولاء والعداء، وعواطف الحب والبغض وأحاسيس الغضب والرضا. والمجتمع المسلم قد جعل ولاءه للإسلام وأهله وأنصاره، كما جعل عداءه لأعداء الإسلام ومحاربيه، وهذا مبنى على فكرة الولاء لله ورسوله، ومن اتخذ الله ولياً فقد اتخذ عدوه عدواً.

والمجتمع الإسلامي يتميز بما يسوده من عاطفة الإخاء الوثيق والحب العميق بين أبنائه، أعني أبناء الإسلام جميعاً، مهما تناءت بهم الديار، وتفرقت بهم الأوطان، واختلفت منهم الأجناس والألوان وتفاوتت بينهم المراكز والطبقات.

إن الله سبحانه قد امتن على المسلمين بنعمة الإخاء كما امتن عليهم بنعمة الإيمان، قال تعالى " وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا" (آل عمران:103)، وقال يخاطب رسوله: "هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 62-63)

إنه لا مجال في المجتمع الإسلامي الحق لمشاعر الحقد والصراع بين الطبقات، ولا مشاعر الكبر والتمييز بين الأجناس والألوان. ولا مشاعر العصبية لرقعة من دار الإسلام -الوطن الإسلامي- دون رقعة، ولا لقوم من أهل الإسلام، وقوم المسلم هم أهل الإسلام.

لقد كان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة يضم تحت سقفه أجناساً وألواناً وطبقات. لم يحسوا بغير شعور الأخوة الجامعة، ولم يشعروا بأي تفرقة أو تمايز بينهم، منهم الفارسي كسلمان والرومي كصهيب والحبشي كبلال، والغني كعثمان ابن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والفقير كأبي ذر وعمار، وفيهم البدوي والحضري، والمتعلم والأمي، والأبيض والأسود، والرجل والمرأة، والضعيف والقوي، والرقيق والحر.. كلهم أخوة في ظل الإسلام، وتحت راية القرآن.

والإخاء الإسلامي ليس أمراً على هامش الإسلام، ولكنه أحد مبادئه الأساسية، التي تقرن إلى الشهادة لله تعالى، بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لأنه أثر الإيمان ومقتضاه: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات:10)

روى أحمد وأبو داوود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يدعو دبر كل صلاة بهذا الدعاء الرائع الفريد: "اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أنك الله وحدك ولا شريك لك.. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك.. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة". فهذا هو محمد رسول الله يشهد ويشهد الله رب كل شيء: أن العباد كل العباد إخوته، وهذا هو إخاء الإسلام، إخاء بين الناس وبين المسلمين خاصة.

ويجعل النبي (صلى الله عليه وسلم) الإخاء والحب شرطاً للإيمان الذي هو شرط لدخول الجنة فيقول " والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا"، "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وبين علاقة المسلم بالمسلم، فيقول " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم".

الرابطة الفذة التي يعرف بها الإسلام هي رابطة الإخاء بين أبنائه، دون أية رابطة أخرى، فقد حارب الإسلام العصبية بكل أنواعها ومظاهرها، العصبية للقبيلة أو للجنس أو للون أو للوطن أو للطبقة أو للحزب.. أو لغير ذلك مما يتعصب الناس له إلا للحق الذي نزل به الوحي، وقامت به السموات والأرض.

يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية". ولقد صور النبي (صلى الله عليه وسلم) المجتمع المسلم وما يسوده من مشاعر التواد والتعاطف والتراحم فقال في حديثه المشهور: "ترى المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تدعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر". فالمجتمع الذي يعيش فيه كل فرد لنفسه، ولا يأسى لآلام الآخرين ولا يحس بأحزانهم، ولا يفرح لفرحهم، وليس هو بالمجتمع المسلم.

المجتمع الذي يطغى فيه القوي على الضعيف، ويقسو فيه الغني على الفقير، ويشح فيه الواجد على المحروم، ليس هو بالمجتمع المسلم.

..........

* عن كتاب "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" لفضيلة الشيخ.