د. يوسف القرضاوي

ليست العبادة في الإسلام، مقصورة على الشعائر المعروفة، بل إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات، ما دام قصد فاعله الخير لا تصيّد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس. فكل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائراً، أو يعلم جاهلاً، أو يؤوي غريباً، أو يدفع شراً عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعاً إلى ذي كبد رطبة، فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية.

أعمال كثيرة من هذا النوع جعلها الإسلام من عبادة الرحمن، وشعب الإيمان، وموجبات المثوبة عند الله.

فليست الصلاة أو الصيام أو الذكر والدعاء هي التي تكتب لك عبادة في يومك وتستوجب بها الأجر عند ربك. كلاّ إنك تستطيع في اليوم الواحد أن تضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك أشياء كثيرة، لها ثقلها وقيمتها في تقدير الحق تبارك وتعالى، وإن بدت عندك هينة خفيفة في الميزان.

من ذلك ما قاله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم عن الإصلاح بين المتخاصمين. قال "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة" (رواه أبو داوود والترمذي وابن حبان في صحيحه). وفي رواية "لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" (هذه الزيادة للترمذي).

ويقول عليه الصلاة والسلام في عيادة المريض وما لها من مكانة عند الله، لما فيها من تخفيف ومواساة "من عاد مريضاً ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً" (رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه ورواه الطبراني بنحوه من حديث أبي هريرة) و"من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها" (رواه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه).

ويروي لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً من المشاهد البديعة العميقة يوم القيامة، في صورة حوار بين الله وعباده "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم .. مرضت فلم تعدني! قال: يا رب .. كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟. يا ابن آدم .. استطعمتك فلم تطعمني! قال: يارب .. كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه. أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم: استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب .. كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي" (رواه مسلم).

ويروي الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك فأخره فشكر الله له فغفر له". وفي رواية مسلم: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم .. فأدخل الجنة".

وعن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "عُرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها، الأذى يماط عن الطريق" (رواه مسلم)

ضريبة اجتماعية

والإسلام لا يستحب هذه الأعمال ويحمدها فحسب، بل هو يدعو إليها، ويحث عليها، ويأمر بها، ويجعلها من الواجبات اليومية على المسلم، التي تقربه إلى الجنة، وتبعده عن النار، وهو تارة يسميها "صدقة" وطوراً يسميها "صلاة" وهي على كل حال عبادة وقربة إلى الله الكريم.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: الإيمان بالله. قلت: يا نبي الله .. مع الإيمان عمل؟ قال: أن ترضخ مما خوّلك الله (أي تعطي مما ملكك الله). قلت: يا نبي الله .. فإن كان فقيراً لا يجد ما يرضخ؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. قلت: فإن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قال: فليعن الأخرق (وهو الجاهل الذي لا يعرف صنعة. يعينه على تعلم صنعة). قلت: يا رسول الله .. أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع؟ قال: فليعن مظلوماً. قلت: يا نبي الله .. أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مظلوماً؟ قال: ما تريد أن تترك لصاحبك من خير؟ ليمسك أذاه عن الناس. قلت: يا رسول الله .. أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة؟ قال: ما م مؤمن يطلب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة" (رواه البيهقي واللفظ له).

بمثل هذه الروح يستحث نبي الإسلام كل مسلم، وإن يكن محدود الاستطاعة، أن يؤدي هذه العبادة، أو "الضريبة" الاجتماعية. ولم يجعل الإسلام هذه العبادة موقوتة بزمان أو مرهونة بمكان، كما لم يجعل هذه العبادة أو الضريبة مالية فينفرد بها الأغنياء، ولا بدنية فيختص بها الأقوياء، ولا ثقافية فيتميز بها المتعلمون، ولكنه جعلها ضريبة إنسانية عامة، يؤديها كل إنسان على قدر طاقته، ويشترك فيها الفقير والغني، والضعيف والقوي، والأمي والمتعلم.

وإننا لنقرأ أحاديث النبي الكريم في هذا الباب، فنرى أنه لم يكتفِ بفرض هذه العبادة العامة على الإنسان من حيث هو إنسان فحسب، بل يشتد في طلبها، فيفرضها على كل ميسم من مياسمه، أو كل مفصل من مفاصله. فيروي أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل سُلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته، فيحمله أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة" (رواه البخاري ومسلم).

ويروي ابن عباس نحو هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول "على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم! فقال رجل من القوم: هذا من أشد ما أنبأتنا به. قال: أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة، وحملك عن الضعيف صلاة، وإنحاؤك القذر من الطريق صلاة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة" (رواه ابن خزيمة في صحيحه).

ونحو ذلك ما رواه بريدة عنه صلى الله عليه وسلم، قال "في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة. قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ (ظنوها صدقة مالية) قال: النخامة في المسجد تدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق.." (رواه أحمد واللفظ له).

وقد وردت أحاديث عديدة تجعل تبسّم المرء في وجه أخيه صدقة، وإسماع الأصم، وهداية الأعمى، وإرشاد الحيران، ودلالة المستدل على حاجته، والسعي بشدة الساقين مع اللهفان المستغيث، والحمل بشدة الذراعين مع الضعيف، وما يدور في هذا الفلك من الأعمال، عدّه رسول الإسلام عبادة كريمة، وصدقة طيبة.

وأفق الخير والنفع الذي يعيش المسلم في دائرته ليس خاصاً بالإنسان وحده، وإنما يتسع فيشمل كل كائن حي في الوجود، حتى الطير والحيوان، فكل إحسان يسديه إليه أو أذى يدفعه عنه عبادة تقربه إلى الله، وتوجب له رضاه. وفي هذه الدائرة الرحبة من أعمال البر التي شملت الإنسان وغير الإنسان، يجد المهتمون بالعبادة، الراغبون في الإكثار منها، والمهتمون بخدمة المجتمع والإحسان إلى الخلق أيضاً، ما يشبع نهمهم ويتجاوب مع أشواقهم، بدلاً من أن ينحصروا في عبادات الصوامع وحدها وينقطعوا عن ركب الحياة.

عبادة بشروط

إن عمل الإنسان في معاشه عبادة بشروط وأعجب من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الأعمال الدنيوية التي يقوم بها الإنسان لمعيشته، والسعي على نفسه وأهله، من أبواب العبادة والقربات إلى الله، وإن لم يتعد نفعها دائرته الشخصية والأسرية. فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، وكل ذي حرفة في حرفته، يستطيع أن يجعل من عمله المعاشي صلاة وجهاداً في سبيل الله، إذا التزم فيه الشروط الآتية:

أن يكون العمل مشروعاً في نظر الإسلام. أما الأعمال التي ينكرها الدين كالعمل في الربا والحانات، والمراقص ونحوها، فلا تكون ولن تكون عبادة أبداً. إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

أن تصحبه النية الصالحة؛ نية المسلم إعفاف نفسه، وإغناء أسرته، ونفع أمته، وعمارة الأرض، كما أمر الله.

أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان. ففي الحديث "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" (رواه مسلم)، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (رواه البيهقي في شُعب الإيمان عن عائشة).

أن يلتزم فيه حدود الله فلا يظلم ولا يخون، ولا يغش ولا يجور على حق غيره.

ألا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) المنافقون:9. وفي قوله تعالى (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) النور:37.

إذا راعى المسلم هذه الأمور كان في سعيه عابداً وإن لم يكن في محراب، مبتهلاً إلى الله وإن لم يكن في صومعة. "عن كعب بن عجرة قال: مر علي النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله .. لو كان هذا في سبيل الله؟ (أي الجهاد لإعلاء كلمة الله، وكان أفضل العبادات عندهم) فقال: إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان" (وقال المنذري: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).

ويخلع القرآن على السعي في مناكب الأرض، طلب الزرق، تسمية جميلة موحية برضا الله، فيسمي ذلك "الابتغاء من فضل الله" مثل قوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (الجمعة:10).

(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) (البقرة:198). ويقرن المسافرين للرزق بالمجاهدين لله في سياق واحد إذ يقول (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) (المزمل:20).

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في فضل الزرع والغرس وما يجلب لصاحبه من مثوبة عند الله "ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" (متفق عليه).

ويعلن أن "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" (رواه الترمذي وحسنه).

وفي ظل هذه التعاليم لا يجوز للمسلم، ولا يتصور منه، أن يكون عالة للمسلم، ولا يتصور منه، أن يكون عالة على غيره، أو عبئاً على المجتمع، يأخذ من الحياة ولا يعطيها، ويعتزل الناس والحياة باسم التفرغ للعبادة أو التبتل. بل يندفع بغير وازع خارجي إلى كل ميادين الحياة منتجاً متقناً متفوقاً، وهو يوقن أنه في صلاة وجهاد.

أعمال الغريزة

على أن الأروع مما تقدم كله أن تشمل العبادة الحاجات الضرورية التي يؤديها المسلم استجابة لدافع الغريزة البشرية. فالأكل والشرب ومباشرة الزوج زوجته، وكان من هذا القبيل يدخل الإسلام في دائرة العبادة الفسيحة، بشرط واحد هو (النية). فالنية هي المادة السحرية العجيبة التي تضاف إلى المباحات والعادات فتصنع منها طاعات وقربات.

وأوضح شاهد على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه "وفي بضع (البضع: قال في القاموس: الجماع أو الفرج نفسه) أحدكم صدقة. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (رواه مسلم والترمذي). قال العلماء: وهذا من تمام رحمة الله على عباده، يثيبهم على ما فيه قضاء شهواتهم إذا نووا أداء حق الزوجة وإحصان الفرج، ولله الحمد.