الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
(أما بعد)
فيسرني أن أقدم لهذه الدراسة الجيدة التي قام بها ابننا العالم الباحث النابه الشيخ علي ونيس نوّر الله بصيرته وسدد خطاه، حول موضوع يحتاج إليه المسلمون أشد الحاجة في هذا العصر، وهو يتعلق بفريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام وشعائره التعبدية الكبرى. وهو: موضوع (الرمي قبل الزوال) في أول وثاني أيام التشريق، وهو أمر يشدد فيه كثير من العلماء، ويوجبون على الناس أن يرموا بعد الزوال، وإن بلغ الزحام بالناس ما بلغ، حتى إن الناس يقتل بعضهم بعضا من شدة التدافع في مرمى الجمار.
ومن ذهب إلى الحج سمع مكبرات الصوت تعلن على الناس: أن من رمى قبل الزوال، فرميه باطل! ولا يكتفون بهذا، بل يضيفون إليه: وحجه باطل!!
هذا مع أن المسألة ليست من مسائل الإجماع بيقين، والخلاف فيها واقع منذ عهد الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين.
فتصدى أخونا الباحث علي ونيس لهذه المسألة ليحقق القول فيها، ويمحص ماورد فيها من أقوال، ومدى صحة نسبتها إلى أصحابها، ويوازن بين أدلتها بحياد وموضوعية إلى حد كبير.
وقد أعجبني من الباحث الشاب: ثقته بنفسه، وشجاعته في مناقشة الأقوال، وتضعيف ما يرى أنه ضعيف، وترجيح ما يرى أنه الراجح، وإن خالف المشهور أحيانا، وهو يتحدث بمنطق علمي وفقهي رصين، وبعد اطلاع واسع على مصادر شتى، ومنها مصادر التوثيق والتضعيف للأسانيد. وهذا كله يبشر بعقلية فقهية واعدة باقتحام ميدان الاجتهاد، فإن الاجتهاد الحق يبدأ بالاجتهاد الترجيحي الانتقائي، ثم ينتهي بالاجتهاد الإبداعي الإنشائي.
وكل عالم يملك المؤهلات العلمية اللازمة من العلم بالعربية، والعلم بالكتاب والسنة، والعلم بمقاصد الشريعة وأصول الفقه، وممارسة الفقه حتى تتكوّن له الملكة الفقهية، مع معرفة بفقه الواقع والحياة : قادر بتوفيق الله تعالى على أن يخوض مبدأ الموازنة والترجيح.
لقد أفادنا بحث الشيخ على ونيس إضافة أسماء جديدة، لم تكن معروفة من قبل، أو مشهورة، ممن قالوا بجواز الرمي قبل الزوال مثل: ابن عباس وابن الزبير من الصحابة، ومثل عكرمة وغيره من التابعين.
ومثل إمام الحرمين الجويني من الشافعية، وابن الجوزي وابن الزاغوني من الحنابلة، بالإضافة إلى الأسماء المعروفة من قبل.
ولكن الذي أخذته على الباحث حفظه الله: أنه كان متحفظا إلى حد بعيد، فهو يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وكأنه يخشى من سهام النقد التي ستوجه إليه من المتشددين، فأراد أن يرضيهم، أو يكف ألسنتهم عنه، رغم أن نتائج بحثه تنادي بأن الرمي قبل الزوال: أمر مشروع ولا شك فيه، قال به صحابة وتابعون، وأئمة معتبرون، من المتقدمين والمتأخرين، والنصوص القرآنية والنبوية تشهد له، ومقاصد الشريعة تؤيده، والقواعد الفقهية تسنده، وحاجة الناس توجب القول به، دون أدنى حرج. فما بال الباحث الكريم يتخوف أو يتحرج من إعلان هذه النتيجة، بعد أن كادت تنطق على طرف لسانه؟ وهي النتيجة التي انتهى إليها علامة قطر الشيخ عبد الله بن زيد المحمود منذ أكثر من أربعين سنة، يؤيده بالأدلة المقنعة، وقد ناقشها الباحث، ونقد بعضها، ورجح بعضها، وهو كافي في ترجيح التعبير على التعبير. أما نصوص القرآن، فيكفي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، و{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، و{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[النساء:28].
وأما نصوص الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولاتعسروا"(1)، متفق عليه عن أنس "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"(2).
وفي الحج خاصة: أنه ما سئل عن أمر قدم ولا أخر في الحج إلا قال:"افعل ولا حرج"(3)، وأنه صلى الله عليه وسلم راعى الأعذار المختلفة فرخص لأصحابها، مثل إذنه للضعفة أن يرموا جمرة العقبة بعد منتصف ليلة النحر، وإذنه للرعاة والسقاة ألا يبيتوا بمنى.
وقوله في حديث عروة بن مضرس "أيما مسلم شهد معنا هذه الصلاة – يعني صلاة الصبح بمزدلفة- وقد وقف قبل ذلك بعرفة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه"(4)، والعجب ممن يصحح هذا الحديث ثم يفتي ببطلان حج من رمى قبل الزوال؟
وقد اعتمد الباحث على أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في المناسك بيان للأمر القرآني بالحج، والفعل إذا صدر تطبيقا للأمر الواجب كان واجبا، ولا سيما بعد قوله: "خذوا عني مناسككم"(5).
هذا مع أن دلالة الأمر النبوي على الوجوب فيه خلاف، ذكره الزركشي في البحر، وأنا ممن يرى أن الأصل في الأمر النبوي: الإستحقاق، ولا يدل على الوجوب إلا بقرينة.
على أنه ناقش ذلك بعد، فبين أن الفعل النبوي الصادر بيانا للأمر، قد يشتمل على الواجب والمستحب والمباح. وهذا حق.
ولكن الذي وقف الباحث أمامه: أن الرسول لم يرم في أيام التشريق إلا بعد الزوال، ولو كان جائزا لفعله ولو مرة، وهذا مردود عليه بأدلة كثيرة: منها: أن الرسول فعل ذلك في جمرة العقبة، حيث كان الأيسر عليه الرمي في ضحى يوم النحر، وهو نازل إلى مكة. وأنه لما سئل عن أشياء كثيرة قدمت أو أخرت، قال: افعل ولا حرج. وأن الشافعية والحنابلة أجازوا تأخير الرمي كله إلى آخر يوم، معتبرين الأيام كلها بمنزلة اليوم الواحد، وأن أبا حنيفة أجاز الرمي من بعد الفجر في يوم النحر، تسهيلا على النازلين من منى إلى مكة.
وأما شهادة المقاصد الشرعية لهذا الرأي، فهو أن الله قد أنزل الشرائع وفصل الأحكام للمحافظة على الضروريات من الدين والنفس والعقل والنسب والمال، - وزاد بعضهم العرض. فحفظ النفس من الكليات الضرورية المطلوب حفظها. وقد قسم الأصوليون المصالح إلى أقسام منها: الضروري والحاجي والتحسيني، ورمي الجمار من التحسينيات في الحج، لأنه يقع بعد التحلل النهائي من الحج، فلا يمكن أن يسمح الشرع من أجل تحصيله بقتل الأنفس، وحفظها من الضروريات بيقين.
كما أن من مقاصد الرمي: ذكر الله تعالى، كما جاء في الحديث أن الذكر هو المقصود من أعمال الحج، وكما قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}[الحج:28] وقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة:203]، وكان النبي يقف عند الجمرة الأولى والثانية ويذكر الله ويدعو ويطيل الدعاء. فهل يمكّن هذا الزحام الهائل والموج المائج من البشر أحدا من أن يذكر الله ويدعوه؟!
كما أن القواعد الشرعية الفقهية المعروفة والمتداولة بين الفقهاء، كلها تؤيد هذا الرأي، مثل: (المشقة تجلب التيسير)، (إذا ضاق الأمر اتسع). (لا ضرر ولا ضرار). (الضرورات تبيح المحظورات). (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة).
أما حاجة الناس، فلا تخفى على أحد له عين يرى، وكل عام يزداد الحج زحاما، وموت الناس تحت الأقدام كارثة لاتزال تتكرر، برغم المجهودات والترتيبات الهائلة التي تقوم الهيئات المتخصصة بالمملكة السعودية، لتسهيل أمور الحجيج في كل عام.
هذا وقد بلغني: أن مكبرات (الميكروفونات) التي كانت تذيع على الناس فتوى بطلان الرمي قبل الزوال، لم تسمع ولم تر في هذا الموسم، وأن بعض علماء المملكة غدوا يفتون بالجواز، نزولا على حكم الضرورة، وارتضاء لمنهج التيسير، الذي طالما اتهموا دعاته بأنهم من المفرطين والمضيعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
على أية حال لا يسعني إلا أن أقدر للباحث بحثه القيم، وأدعو له بالتوفيق في خدمة العلم، ونصرة الإسلام، سائلا الله تعالى أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويثبت على الحق قدميه. آمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفقير إلى عفو ربه
يوسف القرضاوي
------------------------------
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، كما رواه أحمد في المسند (12333) والنسائي في الكبرى كتاب العلم (5859) عن أنس.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الوضوء (221)، ومسلم في الطهارة (284)، كما رواه أحمد (12709)، والترمذي (147)، والنسائي (54)، كلاهما في الطهارة، عن أنس.
(3) - متفق عليه: رواه البخاري في العلم (83)، ومسلم في الحج (1306)، عن عبد الله بن عمرو.
(4) - رواه أحمد (16208)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح. عن عروة بن مضرس.
(5) - رواه مسلم في الحج (1297) عن جابر.