د. يوسف القرضاوي

ليس العلم مطلوبا لمعرفة الأحكام الظاهرة في الفقه فقط، كما قد يظن الكثيرون، بل هو مطلوب لسلوك الطريق إلى الله أيضا، بل ربما كان طلبه هنا أشد وألزم، لدخول الأوهام والأهواء والتلبيسات على الإنسان في هذا الجانب أكثر من غيره.

نرى الإمام الغزالي في مقدمة كتاب "الإخلاص" من "الإحياء" بعد أن بين ضرورة تصحيح النية وإخلاص العبادة لله (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) يقول رحمه الله:

"وليت شعري كيف يصحح نيته من لا يعرف حقيقة النية، أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص؟ أو كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه؟ فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى: أن يتعلم النية أولا لتحصل المعرفة، ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص، اللذين هما وسيلتا العبد إلى النجاة والخلاص".

ثم نرى الغزالي يعود فيتحدث عن أثر النية في أقسام الأعمال من طاعات ومعاص ومباحات، ويبدأ بعلاقتها بقسم المعاصي فيقول:

"اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساما كثيرة من فعل وقول، وحركة وسكون، وجلب ودفع، وفكر وذكر ـ وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه ـ فهي ثلاثة أقسام: معاص وطاعات ومباحات.

"القسم الأول" المعاصي: وهي لا تتغير عن موضعها بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات". فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية، كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب. أو يطعم فقيرا من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجدا أو رباطا بمال حرام، وقصده الخير، فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية. بل قصده الخير والشر ـ على خلاف مقتضى الشرع ـ شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله، إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيرا؟ هيهات! بل المروج لذلك على القلب خفى الشهوة وباطن الهوى، فإن القلب إذا كان مائلا إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفس، توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل، ولذلك قال سهل رحمه الله تعالى: ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل! قيل: يا أبا محمد، هل تعرف شيئا أشد من الجهل؟ قال: نعم، الجهل بالجهل، وهو كما قال، لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم، فمن يظن بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم؟

وكذلك أفضل ما أطيع الله تعالى به: العلم! ورأس العلم: العلم بالعلم، كما أن رأس الجهل: الجهل بالجهل. فإن من لا يعلم العلم النافع من العلم الضار، اشتغل بما أكب الناس عليه من العلوم المزخرفة التي هي وسائلهم إلى الدنيا، وذلك هو مادة الجهل ومنبع فساد العالم، والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور، إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام، ولم يجد بعد مهلة للتعلم، وقد قال الله سبحانه: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يعذر الجاهل على الجهل، ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله، ولا للعالم أن يسكت على علمه".

ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس الحرام: تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار، المشغولين بالفسق والفجور، القاصرين هممهم على مباراة العلماء، ومباراة السفهاء، واستمالة وجوه الناس، وجمع حطام الدنيا، وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين، فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى! وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائبا عن الدجال! يتكالب على الدنيا، ويتبع الهوى، ويتباعد عن التقوى، ويستجرى الناس بسبب مشاهدته على معاصي الله تعالى. ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله، ويتخذونه أيضا آلة ووسيلة في الشر واتباع الهوى، ويتسلسل ذلك، ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه العلم مع علمه بفساد نيته وقصده ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله، ومن مطعمه وملبسه ومسكنه، فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلا وألفي سنة، وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه! ثم العجب من جهله حيث يقول: "إنما الأعمال بالنيات". وقد قصدت بذلك نشر علم الدين، فإن استعمله هو في الفساد فالمعصية منه لا مني، وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير، وإنما حب الرياسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه، والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه: وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفا من قاطع طريق، وأعد له خيلا وأسبابا يستعين بها على مقصوده، ويقول: إنما أردت البذل والسخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة، وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله تعالى، فإن إعداد الخيل والرباط والقوة للغزاة من أفضل القربات، فإن هو صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي. وقد أجمع الفقهاء على أن ذلك حرام مع أن السخاء هو أحب الأخلاق إلى الله تعالى".

ــــــ

- عن كتاب "الحياة الربانية والعلم" لفضيلة الشيخ.