د. يوسف القرضاوي
إن الاجتهاد لا ينحصر في دائرة المسائل الجديدة، بل له مهمة أخرى مع التراث الفقهي، لإعادة النظر فيه على ضوء ظروف العصر وحاجات الناس، لاختيار أرجح الآراء، وأليقها بتحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، بناء على قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والإنسان.
فليس صحيحا أن الأول لم يترك للآخر شيئا، بل الصحيح ما قاله أهل التحقيق: كم ترك الأول للآخر! بل كم فاق الأواخر الأوائل!
ولا تقتصر إعادة النظر هذه على أحكام "الرأي" أو "النظر" وهي التي أنتجها الاجتهاد فيما لا نص فيه. بناء على أعراف أو مصالح زمنية لم يعد لها الآن وجود أو تأثير، بل يمكن أن يشمل بعض الأحكام التي أثبتتها نصوص ظنية الثبوت كأحاديث الآحاد. أو ظنية الدلالة، وأكثر نصوص القرآن والسنة كذلك. فقد يبدو للمجتهد اليوم فيها فهم لم يبد للسابقين، وقد يظهر له رأي ظهر لبعض السلف أو الخلف، ثم هجر ومات. لعدم الحاجة إليه حينذاك، أو لأنه سبق زمنه، أو لعدم شهرة قائله، أو لمخالفته للمألوف الذي استقر عليه الأمر زمنا طويلا أو لقوة المعارضين له، وتمكنهم اجتماعيا أو سياسيا، أو لغير ذلك من الأسباب.
وينبغي أن يكون الاجتهاد في عصرنا اجتهادا جماعيا في صورة مجمع علمي يضم الكفايات الفقهية العالية، ويصدر أحكامه في شجاعة وحرية بعيدا عن كل المؤثرات والضغوط الاجتماعية والسياسية، ومع هذا لا غنى عن الاجتهاد الفردي، فهو الذي ينير الطريق أمام الاجتهاد الجماعي، بما يقدم من دراسات عميقة، وبحوث أصيلة مخدومة، بل إن عملية الاجتهاد في حد ذاتها عملية فردية قبل كل شيء.
إن الاجتهاد الذي ننشده وندعو إليه ـ بقيوده وشروطه الشرعية ـ يمثل حاجة، بل ضرورة لحياتنا الإسلامية، وعلاج مشكلاتنا المعاصرة وإلا أصيبت حياتنا بالجمود والعفن، أو بحثت لأدوائها ـ في الغالب ـ عن علاج من غير صيدلية الإسلام، فإن جمودنا ووقوفنا في موضعنا، لا يوقف الأفلاك عن الحركة، ولا الأرض عن الدوران!
ــــــ
* عن كتاب "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" لفضيلة الشيخ.