الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله، خاتم النبيين وإمام المتقين، ورحمة الله المهداة للعالمين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وأتباعه إلى يوم الدين.

(أما بعد)

فقد استقبلت الأمة الإسلامية القرن الخامس عشر الهجري باحتفاء واحتفال بَالِغَيْن، وكان باكورة ذلك انعقاد المؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية والسنة المطهرة في الدوحة عاصمة دولة قطر، أوائل المحرم سنة 1400هـ، والذي جسَّد اهتمام الأمة بسيرة نبيها الكريم وسنته التي هي المصدر الثاني بعد كتاب الله للتشريع والهداية والتوجيه للحياة الإسلامية.

وكان من أبرز التوصيات التي انعقد عليها إجماع المؤتمرين:

وجوب إنشاء مركز علمي عالمي لبحوث السيرة والسنة، يحقق آمال المسلمين في العالم، في تجلية حقيقة السيرة والسنة والدفاع عنها، وإخراجها في صورة تليق بالإسلام وبرسوله وأمته، مستعينا في ذلك بمعارف السلف وعلوم العصر، وإمكانات الأمة المسلمة. ورجا المؤتمر في بيانه الختامي أن تتبنى دولة قطر هذا المركز المنشود.

وكانت قطر عند حسن الظن بها، فصدر القرار الأميري الكريم بإنشاء (مركز بحوث السنة والسيرة النبوية) محددا أهدافه ومهمته الجليلة، وبذلك أدت دولة قطر العربية المسلمة عن أمة الإسلام في كل مكان، واجبا كفائيا هي أهل له بما قدمت وتقدم دائما من خدمة الإسلام ورسالته وتراثه العظيم.

حدد القرار الأميري هدف المركز ومهامه في خدمة الدراسات والبحوث الإسلامية عامة، والمتعلق منها بالسنة الشريفة والسيرة النبوية المطهرة خاصة، والعمل على تحقيقها وتجليتها للمسلمين وغيرهم، باعتبار أنها مفتاح الكتاب الكريم، وبيانه النظري والعملي والمصدر الثاني للتشريع الإسلامي وللحياة الإسلامية، وذكر من مهام المركز بصفة خاصة الأمور التالية:

أولا: إعداد موسوعة للحديث النبوي تضم صحاح الأحاديث محققة تحقيقا علميا، مبوبة تبويبا جديدا، مفهرسة فهرسة حديثة، مخرجة إخراجا عصريا مشوقا معلقا عليها بما يوضح المفاهيم، ويدفع الشبهات والمفتريات، مع الاستفادة بأحدث الأساليب العلمية وخصوصا في مجال الحاسبات الآلية.

ثانيا: الإسهام في تحقيق المصادر المهمة للسيرة والسنة ونشرها بما يلائم العصر، ويقربها لمن يريد أن يستفيد منها.

ثالثا: إصدار دراسات عصرية عن السيرة والسنة تجلى مقاصدها وتسهم في تكوين وعي إسلامي صحيح.

رابعا: متابعة ما ينشر عن السيرة والسنة بأقلام المستشرقين وغيرهم، للتنويه بالجيد منها، والرد على ما فيه تحامل وافتراء.

خامسا: إخراج دراسات مرجعية (بيلوجرافية) مفصلة، وأخرى جغرافية وأثرية وخرائط لأرض الرسالة ومواقع الغزوات، وأحداث فترة النبوة.

سادسا: دراسة الأحكام الشرعية المستمدة من السنة بشكل متكامل للاستفادة منها عند وضع القوانين والتشريعات.

سابعا: إصدار مجلة علمية متخصصة تتابع حركة التأليف والنشر، في حقل الفكر الإسلامي، وبخاصة المتعلق بالسيرة والسنة، وإصدار دليل دوري بالمراجع والكتب والمقالات المنشورة في هذا الشأن.

ثامنا: إنشاء مكتبة إسلامية لبحوث السيرة والسنة، ومؤلفاتها ومراجعها ومخطوطاتها.

وها هو ذا العدد الأول من (مجلة المركز) يصدر بحمد الله حاويا لعدد من البحوث الجادة، المتعلقة بالسنة والسيرة، تصحح المفاهيم، وترد على الشبهات والمفتريات، وتنوه بكل عمل جاد في خدمة السيرة والسنة، وإن جاء من غير المسلمين.

كما يتضمن العدد مشروع المنهج المقترح لموسوعة الحديث النبوي، وهو العمل الكبير الذي اضطلع المركز بالقيام به بعون الله تعالى وتأييده، ثم بمساعدة أهل الذكر والاختصاص في أقطار الإسلام كلها بالرأي والمشورة.
وفي العدد دراسة عن حافظ هذا العصر (الكومبيوتر)، ومدى ما يمكن أن يساهم به في جمع السنة وتصنيفها.

وإنا لنرجو أن يكون هذا الوليد (العدد الأول من مجلة المركز) قد ولد في إبَّانه، وأن يكون باكورة لأعداد تتلوه نامية صاعدة ومستمرة في خدمة السنة والسيرة، وتجلية حقائق الإسلام، وكشف أباطيل خصومه، الذين تكاثروا في هذا العصر، يناوشونه من كل جانب، حتى استطاعوا أن يكسبوا بعض الأقلام التي ينتسب أصحابها إلى الإسلام بالعنوان والوراثة، وأكثر ما وجهوا إليه حملاتهم المسعورة والمسمومة هو: السنة المطهرة، على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.

ولكن الله تعالى الذي كتب الخلود لهذا الدين، وختم به الرسالات السماوية، ونسخ بشريعته كل الشرائع، قد قيض له من يذود عن حِياضه، ويدافع عن سنة نبيه، ويقوم لله بالحجة، ويدفع بحقه الباطل، فإذا هو زاهق: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}[الأنعام:89].

هؤلاء الموكلون برسالات الله، هم أمة الحق القوَّامة على أمر الله، الذين نوَّه بهم القرآن والحديث. في القرآن جاء قول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:181]. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والشيخان من حديث معاوية: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس"(1).

وروى مسلم من حديث عقبة بن عامر: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك" (2).

وروى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث عمران بن حصين: "لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال" (3).

وقد رُوي هذا الحديث عن عدد من الصحابة منهم عمر (4) والمغيرة بن شعبة (5)، وثوبان (6) وجابر (7) وأبو هريرة (8)، وقرة بن إياس (9) رضي الله عنهم.

هذه الطائفة تتميز بالاستمرار على المقاومة حتى تقوم الساعة، تقاتل على حقها، وتذود عن رسالتها، حتى يأتي لأمر الله.

وقال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: أما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم.

وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري من هم؟!

قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.

قلت – والقائل النووي-: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض.

قال النووي: وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة، فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث (10). اهـ.

وهذه الطائفة هي التي حدد الأثر المشهور مهمتها مع العلم النبوي، وهو ما روي من طرق ووجوه متعددة ذكرها ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) وقواه بها. قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (11).

فهذه مهمتهم التي تتجلى أولا: في الاحتفاظ بجوهر الميراث النبوي سليما من تحريف الغلاة المتنطعين الذين يريدون أن يخرجوا به عن وسطيته وتوازنه ويميلوا به عن (الصراط المستقيم) إلى سبل المغضوب عليهم والضالين. وهم الذين برئ منهم النبي صلى الله عليه وسلَّم حين شرح منهجه، ثم قال: "فمن رغب عن سنتي فليس مني" (12).

فهم أحرص الناس على الاعتدال في فهمهم للدين، وفي علمهم به، وفي دعوتهم إليه، ييسرون ولا يعسرون، ويبشرون ولا ينفرون، ويرفقون ولا يعنفون.

وتتجلى ثانيا: في الموقف الصلب في وجه المبطلين، وانتحالاتهم الزائفة، التي يريدون أن يلصقوها بهذا الدين، وهو منها براء، سواء كان هذا الانتحال يتصل بالعقائد والمفاهيم أم بالعبادات والشعائر أم بالأخلاق والآداب، أم بالنظم والمعاملات.

فهم في أمر دينهم متبعون لا مبتدعون، فقد أكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة فمن أحدث فيه ما ليس منه فهو رد.

يرفضون أي جسم غريب على هذا الدين، ولا يقبلونه إلا نقيا صافيا كما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعهم الدليل الذي لا يخطئ، والهادي الذي لا يضل: كتاب الله وسنة رسوله {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:101].

وهم في أمر دنياهم مبتكرون مبتدعون، يلتمسون الحكمة من أي وعاء ويطلبون العلم من كل أفق، ويستخدمون كل طاقة ممكنة للارتقاء بحياتهم، دون حجر عليهم، ولا إعنات لهم، شعارهم الحديث الشريف "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (13).

وتتجلي مهمتهم ثالثا: في مقاومة تأويلات الجاهلين الضالين للدين، الذي يريدون أن يفهموه على غير حقيقته، وأن يجعلوا منه عجينة لينة يصوغها من يشاء كيف شاء، دون تفرقة بين القطعيات والمحتملات، ولا بين المحكمات والمتشابهات، فهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وهم يريدون أن يحولوا المحكم إلى متشابه، والمجتمع عليه إلى مختلف فيه، والمسلمات القطعية إلى مسائل ظنية، تحريفا للكلم عن مواضعه، واتباعا للهوى وشذوذا عن جماعة أهل الحق والراسخين في العلم.

وهذا ما يجب أن يقوم عليه المركز وتقوم عليه مجلته، أن تنفي عن ميراث النبوة الخاتمة وعلمها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وبالتالي تبين وسطية أهل الاعتدال، وصدق أهل الحق، وفقه أهل العلم، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

رئيس تحرير المجلة

ومدير مركز بحوث السنة والسيرة

أ.د يوسف القرضاوي

------------------------

(1) متفق عليه: رواه البخاري المناقب (3641)، ومسلم في الإمارة (1037)، كما رواه أحمد (15597).

(2) رواه مسلم في الإمارة (1924).

(3) رواه أحمد (19851) وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأبو داود في الجهاد (2484)، والحاكم في الجهاد (2/71)، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة (1959).

(4) رواه الحاكم في الفتن (4/550) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني الصحيحة (1956).

(5) متفق عليه: رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7311)، ومسلم في الإمارة (1921).

(6) رواه مسلم في الإمارة (1923).

(7) رواه مسلم في الإمارة (1923).

(8) رواه أبو يعلى (6417)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (16662): رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات.

(9) رواه أحمد (15597) وقال مخرجوه: إسناده صحيح، والترمذي الفتن (2192) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة (6)، وصححه الألباني في الصحيحة (403).

(10) شرح النووي لمسلم (13/67).

(11) مفتاح دار السعادة (1/163- 165).

(12) متفق عليه: رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401) كلاهما في النكاح، عن أنس.

(13) رواه مسلم في الفضائل (2363) عن أنس.