إن المعركة بين الحق والباطل معركة طويلة الأمد، عريضة الجبهة، وهي في حاجة إلى حراس أيقاظ أقوياء، وأسلحة ماضية متنوعة، والباطل يستخدم كل الأسلحة المادية والأدبية في حربه الأبدية الضروس ضد الحق، والشعر سلاح من هذه الأسلحة كالمقالة والقصة والمسرحية، وسائر ألوان الأدب والفن.

ومما يأسى له القلب، ويندى له الجبين، أن نرى كثرة من الشعراء في دنيا العرب يدورون في فلك الباطل، يستوحون شيطانه، فيوحي إليهم زخرف القول غرورا، ويقولون منكرا من الشعر وزورا، ما بين غارق في لذة الحس سكران، لا يعرف يومه من أمسه، ولا جسده من رأسه، وبين حبيس في قفص التقليد للغرب الأشقر، أو الشرق الأحمر، مستعبد لفكر أجنبي، صنعته اليهودية العالمية، أو الصليبية الغربية أو الشيوعية الدولية، فهو يردده ترديد الببغاوات، ويقلده تقليد القرود، ويزعم هذا التقليد تجديدا ما بعده تجديد!

بيد أن حكمة الله قد قضت أن لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل مجال من مجالات الحياة.

ورحم الله شوقي إذ قال:
إن الذي خلق الحقيقة علقما     لم يخل من أهل الحقيقة جيلا

فلا غرو أن وجد –بإزاء هؤلاء العبيد للفكر الأجنبي والأدب الدخيل- شعراء أصلاء، لم يرضوا لأنفسهم أن كونوا عبيدا، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وأبوا أن يبيعوا عقولهم وقلوبهم لشرق أو غرب.

من هؤلاء الأحرار الأصلاء الأخ الشاعر الأستاذ وليد الأعظمي، الذي أقدم اليوم الطبعة الثانية لديوانه (الشعاع).

ولهذا الديوان من اسمه نصيب. فله من الشعاع وضوحه وإشراقه. وله منه ضوؤه وحرارته، وله منه طهره واستقامته.

ويوم تدلهم الدنيا بظلمات الباطل، يتراكم بعضها فوق بعض، تصبح في حاجة إلى (أشعة) هادية تنير الطريق، وتبدد الدياجير. وهذا الديوان شعاع من هذه الأشعة التي تبعث الهدى والحرارة والنور.

وربما استعبد كثير من الناس أن يكون للشعر حظ مما ذكرت من الأوصاف، فالشعر في أذهان الناس –وخاصة المتدينين منهم- خيال يجافي الواقع، وغلو يبعد عن الحقيقة، وأعذبه أكذبه كما يقال، والشعراء في كل واد يهيمون، وديدنهم أنهم يقولون ما لا يفعلون.

وهذا صحيح في جملته بالنظر إلى غير المؤمنين! أما المؤمنون فلهم شأن آخر. إن الإيمان إذا امتزجت حلاوته بقلب الشاعر جعله يستمد من ملاك إذا استمد غيره من شيطان. إن الإيمان هو الذي يصحح الاتجاه ويقومه، فإذا استقام اتجاه المرء استقام شعره ونثره، وقوله وعمله وخلقه وسلوكه، ولهذا قال القرآن الكريم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء:244-227].

وهذه الآيات تبين لنا أن منهج الأدب الإسلامي ليس منهج الهيمان في أودية الخيال، ولا منهج التلبيس والتزوير الذي يجعل الأكاذيب حقائق، ويجعل من الذرة مجرة، وإنما هو المنهج الواقعي الحييواجه الحياة، ويعالج الواقع في ضوء الإيمان، وتحت راية الله.

وهكذا كان شاعرنا، إنه لم يعش في برج من الأبراج العاجية التي يعيش فيها المترفون، ولا في صومعة من الصوامع الخلوية، التي يستريح فيها المتصوفون.

إنه شاعر الواقع، شاعر الحياة، وولعه بالواقع والحياة جعله بحق، شاعر الشعب، وشاعر الإسلام.

شاعر الشعب: يشدو له حين يفرح، ويبكي له حين يأسى، ويزأر من أجله حين يظلم، ويصرخ صراخ الحارس اليقظ، إذا اهدرت حقوقه، أو ديس حماه.

والشعب عنده لا تحصره أرض ضيقة، ولا تحده حواجز مصطنعة، إن شعبه هم المسلمون في كل مكان، عربا كانوا أو عجما، بيضا كانوا أو سودا، رجالا كانوا أو نساء.

وهو أيضا شاعر الإسلام؛ وكل شاعر حقيقي للشعب لا بد أن يكون شاعرا للإسلام، فالإسلام هو دين الشعب ومنهجه الذي ارتضاه الله له، وارتضاه هو لنفسه، بمقتضى عقد الإيمان، وكل من زعم نفسه شاعرا للشعب أةو أديبا للشعب أو فنانا للشعب، وهو في الوقت نفسه يجافي الإسلام ودعوته، فهو كاذب في دعواه، خائن للشعب، مزور عليه، بل عدو له.

والإسلام الذي آمن به شاعرنا هو الإسلام الحق، الإسلام الأصيل لا المغشوش. الإسلام القوي لا الضعيف الإسلام الذي لا يعرف اليأس ولا الهزيمة ولا الاستسلام.

ولهذا تراه يتغنى بدستور الإسلام – القرآن- في أكثر من قصيدة وبنبي الإسلام في أكثر من مناسبة، وبدعاة الإسلام في أكثر من موقف.

و(الشعاع) هو باكورة دواوين شاعرنا، الذي يتمتع بطاقة شعرية ثرة سخية، وقد ظهر له بعده (الزوابع) و(أغاني المعركة).

ولا شك أنهما أدل على شاعريته من هذا الديوان، وأحفل بالمعاني والأخيلة والصور الشعرية، ومع هذا يظل لهذا (الشعاع) قيمته الخاصة، وفيه تتجلى من أول يوم خصائص الشاعر الأصيلة في شعره، من التدفق والسلاسة والصدق وحرارة العاطفة، ووضوح الفكرة، وسهولة التعبير.

وإذا كان لا بد من أمثلة على هذه الخصائص، فلنستمع إليه يقول في قصيدة (صرخة):
شكونا إلى الأعــداء ألف شكاية     وقد كل من نقل الشكاوى بريدها
وألف احتجاج قـــد بعثنا بشدة        فلم يجد نفعــا سهلها وشديدها
وكانت مواثيق الأعــادي خرافة      وأقوالها كذبــا وزورا عهودها
مجالسها للغـــدر والظلم أسست        فحكامها منهــم، ومنهم شهودها
وأوراق شكوانا على الرف كدست      وبين زوايـــاها ليشبع دودها

وفي مقطوعة عن (شهداء الدعوة الإسلامية) يقول:
ما ذنبهم؟ ماذا جنته أكفــهم         وهم الدعــاة لكل خلق راق؟
ألأنهم قالوا – بكل صراحة-      لسنا نريد حيــاة الاسترقاق؟
يتراكضون إلى المشانق مثلما      تجري الضوامر في مجال سباق
باعوا النفـوس لربها وتذوقوا       طعم الشهادة وهو حــلو مذاق
فازوا بــها، فكأنها وكأنهم        (مشتاقة تســعى إلى مشتاق)

بقي شيء قد يأخذه بعض الناس على الشاعر، وهو عنفه في مهاجمة الأوضاع الجائرة ورجالها، وصبه سياطا من لهب، على جباههم وجنوبهم وظهورهم، وربما استعمل في أحيان نادرة ألفاظا جارحة، أو غير مألوفة، ولكن عذره ما يرى ويلمس من مظالم فادحة، ومساخر فاضحة، ومآسي صارخة، من شأنها أن تثير الهادئ، وتغضب الحليم. فما بالك بشاعر دافق العاطفة، ملتهب الإحساس، كان يومها في عنفوان الشباب؟

وهو يعبر عن طابع شعره في أبيات صدَّر بها ديوانه، يقول فيها:
ولست الشاعر الرخو       الذي يقنع بالهــمس
وخير الشعر ما كان      صريح الغاي كالشمس

سدد الله شاعرنا، وأيده بروح القدس من بعد، كما أيد (حسانا) من قبل، حتى يكون وقع شعره على الظلاَّم، أشد من وقع الحسام في غبس الظلام.

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

الدوحة في ذي الحجة 1387هـ        

مارس 1968م