ياسر الزعاترة
في تصريحات متفرقة للرئيس الفلسطيني بخصوص زيارة القدس من قبل العرب والمسلمين قال الرجل “إن تحريم زيارة القدس أمر لم يَرِدْ في القرآن الكريم، أو في الأحاديث النبوية الشريفة”، مؤكدا في تصريح آخر أنه “لا يجوز تحريم زيارة القدس؛ لأنه لا تحريم دون نص؛ ولا يوجد نص في القرآن أو السنة لتحريم تلك الحالة”.
لا يختلف هذا القول عن الرؤية الفقهية التي صاغها وزير أوقاف السلطة محمود الهباش حول الموضوع، والتي ركزت الرد على العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، فيما بشرنا الوزير بأن طائفة من رموز ووفود العرب والمسلمين سيأتون إلى القدس من أجل حمايتها من التهويد خلال الأيام والأسابيع المقبلة!!
هنا سنضطر للتوقف من جديد عند هذه القضية التي كثر الحديث عنها هذه الأيام رغم كتابتنا عنها غير مرة، لاسيما بعد الزيارة الجدلية لمفتي مصر الشيخ علي جمعة، وما ترتب عليها من جدل، بخاصة في مصر.
ما نحب التأكيد عليه في هذه السطور هو أن المسألة ليست فتوى تقليدية حتى يرد عليها “العلامة الهباش”، فضلا عن رئيسه الذي يقيس خطواته بميزان الكتاب والسنة!! أما التركيز على كلام الشيخ القرضاوي في كلام الرجلين وعموم ردود الأبواق العاملة في ذات الإطار فلا يعدو أن يكون استهدافا للشيخ بسبب مواقفه، لاسيما حين تعمد تلك الأبواق إلى ربطه بدولة قطر ومواقفها، إلى غير ذلك من وسائل الردح التقليدية التي دأب عليها هذا التيار ضد من يخالفونه من العلماء والسياسيين.
المسألة كما قلنا ليست فتوى تقليدية، وحتى لو قال الشيخ وسواه بتحريم الزيارة، فقد فعلوا ذلك استنادا إلى نظرية المصالح والمفاسد، أي أن الأمر يتعلق في جوهره بتقدير موقف سياسي يقرره أهل العلم والخبرة، وحين يقول هؤلاء إن مفاسد الزيارة أكثر من مصالحها يكون من الطبيعي أن يقول العلماء بالحرمة الشرعية لأن تقدير الأمر منوط بمصالح المسلمين (في الآية أن الخمر والميسر “فيهما إثم كبير ومنافع للناس”، ولكن المشكلة أن “إثمهما أكبر من نفعهما”).
والسؤال الذي يطرح نفسه ولا يجيب عنه أولئك هو: هل كان العرب والمسلمون متفقين على جواز زيارة العرب والمسلمين للقدس بتأشيرة من سلطات الاحتلال، ثم جاء الشيخ القرضاوي ليخالف رأيهم، أو أن ذلك الموقف هو ما استقر عليه الرأي في أوساط المفكرين والعلماء (منهم سائر شيوخ الأزهر) والسياسيين منذ عقود قبل أن يخرج علينا ثنائي (عباس- هباش) بموقفهما الجديد، ولتنتصر لهما حركة فتح التي ورثها الأول بالطريقة المعروفة، ومعها السلطة والمنظمة بعد اغتيال ياسر عرفات رحمه الله؟!
هو إذن موقف سائر الأحزاب والمنظمات الفلسطينية والعربية المعنية بالصراع مع العدو (كان موقف البابا شنودة أيضا)، وبالتالي فإن من بادر إلى تغيير الموقف هم الطرف الأول وليس القرضاوي وسائر قوى وفعاليات الأمة.
على هؤلاء تبعا لذلك أن يثبتوا للأمة أن مصالح السياحة العربية والإسلامية للقدس أكثر من مفاسدها، بعيدا عن تفنيد النصوص الدينية التي لم يستند إليها أحد، لأن القضية في الأصل سياسية محدثة، ولا صلة لها بما كان في قديم الزمان قبل فتح القدس وإعادة احتلالها، وقبل أن تظهر الدولة الحديثة بصيغتها الحالية وما تنطوي عليها من تأشيرات وجوازات سفر، إلى جانب طبيعة الاحتلال الإسرائيلي الفريدة ومطامعه في المدينة ومقدساتها، مع أن الاستدلال بزيارة النبي عليه الصلاة والسلام للكعبة ساقط أيضا، لأن مكة لم تكن محتلة، ومن كانوا فيها هم أهلها، وإن كانوا مشركين.
ثم إن نظرية أهل مكة أدرى بشعابها تبدو ساقطة هنا، ليس فقط لأن زمن “غوغل” قد أطاح بها، بل لأن رفض الزيارة هو رأي أهل مكة أيضا، ويكفي أن يخرج أمثال الشيخ رائد صلاح والشيخ عكرمة صبري، وهما من أهم رموز الدفاع عن القدس والمقدسات أكثر من الهباش، يكفي أن يقول الرجلان وأمثالهما إن الزيارة نوع من التطبيع وإن مفاسدها أكبر حتى نؤمِّن على رأيهما، فضلا عن سائر الفصائل المعتبرة عدا حركة فتح.
لا داعي لطرح السؤال الذي نطرحه دائما ويهرب منه أنصار التطبيع ممثلا في سبب تسهيل الاحتلال لزيارات العرب والمسلمين مقابل منع أمثال الشيخ رائد والشيخ عكرمة وفلسطينيي الضفة الغربية من دخولها!!
لكن وما دمنا في سياق الفتاوى والنصوص، واستناد الرئيس الفلسطيني إلى القرآن والسنة، فنود منه ومن وزير أوقافه أن يفتونا في جملة من الأمور، أولها جواز التنازل عن 78 في المئة من فلسطين للصهاينة، وما النص الذي استندوا إليه في ذلك، وكذلك التنازلات التي قدموها في القدس ذاتها ومحيط المسجد الأقصى كما أثبتتها وثائق التفاوض. ونسأل أيضا عن جواز التعاون مع قوات الاحتلال في مطاردة المجاهدين، فيما يسمى لغايات التدليس تنسيقا أمنيا؟!
لقد نسي المطبلون تأييدا للزيارة أن سياقها السياسي يتعلق بوجود السلطة التابعة للاحتلال وتنسيقها الأمني معه، وحصول قادتها على بطاقات الفي آي بي منه، ولو كانوا حريصين على القدس لكانوا مع الانتفاضة التي تحميها وتحررها وليس مع المفاوضات وألعاب التطبيع التي تكرس وضعها تحت رحمة الاحتلال.
بقي القول إن من المعيب أن يتنطح فلسطينيون للدفاع عن خطوات تطبيعية بائسة من هذا النوع، فيما العرب والمسلمون يصرون على رفضها، ومن تابع الحملة على مفتي مصر من قبل المصريين بشتى تياراتهم يدرك هذا البعد الذي يثير الخجل لدى كل فلسطيني شريف.
ــــــ
- عن صحيفة الدستور الأردنية، 1/5/2012.