الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وأزكى صلوات الله وتسليماته على رحمته للعالمين، وحجته على الناس أجمعين،سيدنا وأمامنا محمد، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(أما بعد)
فماذا أقول في هذا المقام – مقام الحمد والشكر لواهب النعم جل شأنه – إلا: الحمد، لقد أصبح الحلم حقيقة: أن يكون لعلماء المسلمين الذين يعبرون عن حقائق الإسلام، ويردون عن أباطيل خصومه، والذين يدعون لهذا الدين بشمول وتكامل: عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، وأخلاقا وثقافة، وحقا وقوة، ودعوة ودولة، أن يكون لهم اتحاد عالمي ينظمهم في سلك واحد، ويجمعهم تحت راية واحدة، هي راية التوحيد والرسالة. فهو اتحاد لأهل القبلة جميعا، وإن اختلفت مذاهبهم وطوائفهم، وتعددت مشاربهم واتجاهاتهم.
كما أصبح لهذا الاتحاد العالمي مجلة تنطق باسمه، وتعبر عن وجهته، وتربط بين أعضائه، وتقوم بدورها في توجيه الأمة المسلمة، وتفقيهها في دينها، وربطها بالمحكمات من كتاب ربها، وسنة نبيها، وجمع كلمتها على الهدى وقلوبها على التقى.
مجلة تنظر إلى الإسلام وتراثه الهائل بعين، وتنظر إلى العصر ومنجزاته ومشكلاته بالعين الأخرى، على نحو ما أثر عن سلفنا: رحم الله امرءا عرف زمانه، واستقامت طريقته.
لقد تعلمنا من سنة نبينا: "أن العلماء ورثة الأنبياء". ورثوهم في الهداية والتبليغ والتعليم.
وقد رفع القرآن الكريم والسنة النبوية – في نصوص مستفيضة – من شأن العلماء، ونوها بمكانتهم، قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أنَّه لا إلهَ إلا هُوَ والمَلائِكَةُ وأولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ }[آل عمران18]. يقول الإمام الغزالي في (الإحياء): فانظر كيف بدأ الله بنفسه ثم ثنى بالملائكة، ثم ثلث بأولي العلم[1]. وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر28] وقال بعض السلف في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمِنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء59] : "أولو العلم"[2] هم العلماء. وقال بعض السلف: "الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك"[3]. وهذا ما عبر عنه الشاعر بقوله:
إنَّ الأكَابِرَ يَحْكُمُونَ عَلى الوَرَى وعلى الأكابر يَحْكُمُ العُلمَاءُ[4].
وفي بعض الآثار: "صنفان من الأمة، إذا صلحا صلحا الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء.
وكثيرا ما يكون فساد الأمر بسبب فساد العلماء، لأنهم هم الأطباء، فإن فسد الطبيب أو قصر في علاج المريض، فمن يداويه؟! ولهذا قالوا قديما:
يا أيُّها الْعُلَمَاءُ يا مِلْحَ الْبَلَد مَا يُصْلِحُ المِلحَ إذا المِلحُ فَسَد
وقال – صلى الله عليه وسلم - : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"[5].
والعلماء الحقيقيون هم الذين يوظفون علمهم في خدمة الحق وهداية الأمة، ولا يفصلون بين العلم والعمل، والدعوة والتعليم، فهم يَعْلمون ويَعْمَلون، ويدعون ويُعَلِّمُون، كما قال تعالى: {ولكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّين بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران79]، {ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا ِمِمَّنْ دَعَا إِلى اللهِ وعَمِلَ صَالِحًا وقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت 33].
ولقد كان العلماء في تاريخنا ملاذ الأمة في الأزمات، هم الذين يثبتونها على الدين، ويدعونها إلى الاستقامة، ويحرضونها على الجهاد، وكثيرا ما أصابهم من الأذى في سبيل الله ما أصابهم، فما وهنوا وما استكانوا، حتى أئمة المذاهب الأربعة المشاهير نال كلا منهم ما ناله من الأذى.
وقد علمنا القرآن كما علمتنا السنة: أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة أبدا، يقول القرآن: {ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف181].
وتؤكد السنة أن لا تزال هناك (طائفة) قائمة على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك[6]. صح ذلك واستفاض عن عدد من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمي العلماءُ هذه الفئة: الطائفة المنصورة وهؤلاء هم (الخلف العدول) من (حملة العلم) الذين جاء ذكرهم في بعض الأحاديث "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله: ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"[7].
* تأسيس اتحاد عالمي لعلماء المسلمين:
وفيما مضى كان هناك فرصة لدور العالم الفرد ذي المنزلة في مجتمعه، فيقوم بإيقاظ النائمين، وتنبيه الغافلين، وتعليم الجاهلين، ورد الشاردين، ونصح الحاكمين، فيصلح الله على يديه ما شاء من الخلق، بقدر ما يسر له من أسباب..
وفي عصرنا أصبح هذا دور المؤسسات الجماعية التي تناط بها الأعمال الكبيرة، وتقدر على ما لا يقدر عليه الفرد، وهذا ما يدعو إليه الإسلام الذي يقول رسوله: "يد الله مع الجماعة"[8]، "وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"[9] ، " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعض"[10] ، ويقول تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِ والتَّقْوَى} [المائدة2]، {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا} [آل عمران103].
ومن أجل هذا دعونا وحرصنا وعملنا جاهدين، لتأسيس اتحاد عالمي لعلماء المسلمين الذي أصبح قيامه فرض كفاية على الأمة، لأن هناك واجبات لا تتم إلا به. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
* سمات الاتحاد العالمي:
إن هذا الاتحاد مفتوح لكل علماء الإسلام في المشارق والمغارب، ونعني بالعلماء: خريجي الكليات الشرعية والأقسام الإسلامية، وكل من له عناية بعلوم الشريعة، والثقافة الإسلامية، وله فيها إنتاج معبر، أو نشاط ملموس. ولهذا الاتحاد سمات وخصائص اتصف بها، وتميز عن غيره، نشير إليها فيما يلي:
1- الإسلامية: فهو اتحاد إسلامي خالص، يتكون من علماء مسلمين، ويعمل لخدمة القضايا الإسلامية، ويستمد من الإسلام منهجه، ويستهدي به في كل خطواته، وهو يمثل المسلمين بكل مذاهبهم وكل طوائفهم.
2- العالمية: فهو ليس محليا ولا إقليميا، ولا عربيا ولا عجميا، ولا شرقيا ولا غربيا، بل هو يمثل المسلمين في العالم الإسلامي كله، كما يمثل الأقليات والمجموعات الإسلامية خارج العالم الإسلامي.
3- الشعبية: فهو ليس مؤسسة رسمية حكومية، إنما يستمد قوته من ثقة الشعوب والجماهير المسلمة به. ولكنه لا يعادي الحكومات كما لا ينافقها، بل يجتهد أن يفتح نوافذ للتعاون معها على ما فيه خير الإسلام والمسلمين.
4- الاستقلال: فهو لا يتبع دولة من الدول ولا جماعة من الجماعات، ولا طائفة من الطوائف، ولا يعتز إلا بانتسابه إلى الإسلام وأمته.
5- العلمية: فهو مؤسسة لعلماء الأمة، فلا غرو أن يهتم بالعلم وتعليمه، وبتراثنا العلمي وإحيائه وتحقيقه ونشره.
6- الدعوية: فهو مؤسسة تعنى بالدعوة إلى الإسلام باللسان والقلم، وكل الوسائل المعاصرة المشروعة، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، ملتزمة بمنهج القرآن بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
7- الوسطية: فهو لا يجنح إلى الغلو والإفراط، ولا يميل إلى التقصير والتفريط، لا يطغى في الميزان، ولا يخسر في الميزان، وإنما يتبنى المنهج الوسط للأمة الوسط، وهو منهج التوسط والاعتدال.
8- الحيوية: فلا يكتفي بمجرد اللافتات والإعلانات، بل يعني بالعمل والبناء، وتجنيد الكفايات العلمية والطاقات العملية، تقودها ثلة من العلماء المشهود لهم بالفقه في الدين، والاستقامة في السلوك، والشجاعة في الحق والاستقلال في الموقف، والحائزين على القبول بين جماهير المسلمين.
* أهداف الاتحاد:
يسعى اتحاد العلماء – وبالتالي تسعى مجلته الناطقة باسمه – إلى تحقيق هدف كلي، تنبثق منه أهداف جزئية شتى. أما الهدف الكلي الأكبر، فهو الحفاظ على الهوية الإسلامية للأمة، لتبقى كما أراد الله لها أمة وسطا،شهيدة على الناس، داعية إلى الخير، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، مؤمنة بالله..
والوقوف في وجه التيارات الهدامة – كتيارات العلمانية والتغريب – التي تريد أن تقتلع الأمة من جذورها، داخلية كانت أم خارجية، وتيارات الغلو والتشدد التي شوهت وجه الإسلام، واستباحت الدماء والأموال المعصومة، متبعة المتشابهات من النصوص، تاركة المحكمات والبينات، وضرورة موالاة الأمة بالتفقيه والتثقيف والتوعية حتى تعرف حقيقة دورها ورسالتها، وتندفع إلى أداء مهمتها بإيمان وإخلاص، موحدة الغاية، موحدة المرجعية، موحدة الدار، مستقيمة المنهج والطريق.
أما الأهداف المتفرعة عن هذا الهدف الكلي الأصلي، فتتمثل فيما يلي:
1- التعاون على حسن تفقيه المسلمين بدينهم، وتوعيتهم حيثما كانوا بالإسلام الصحيح – إسلام القرآن والسنة – عقيدة وشرعة، عبادة ومعاملة، فكرا وسلوكا، في شموله ووسطيته ويسره وسماحته، بعيدا عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
2- تنبيه المسلمين إلى الأخطار التي تهدد هويتهم العقدية والثقافية، وتعمل على تمزيق روابطهم، وإبعادهم عن الإسلام الذي يجمع بينهم، ومقاومة هذا الغزو المنظم، بمثل أسلحته، وتحذير الأمة من الأسلحة الجديدة التي تستخدم ألفاظا براقة مثل الحداثة والعولمة وغيرهما.
3- بناء الشخصية الإسلامية، الفردية والجماعية، وتهيئتها لتقوم برسالتها الكبرى في عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض، وخلافة الله تعالى، وتقوم بالشهود الحضاري على البشرية، حتى تدينها في الحياة: علما نافعا، وعملا متقنا، وخلقا قويما، ورشدا في الفكر، وثراء في الإنجاز، وسموا في الأخلاق، ورحمة للعالمين.
4- إنارة السبيل للمسلمين في الأوضاع المستجدة، والأحوال المتطورة من حياة الأفراد والأسر والمجتمعات، بتوجيههم إلى الآراء الناضجة، والحلول الناجعة لمشكلات حياتهم الفكرية والعملية، من خلال أحكام الشريعة وقواعدها في ضوء الاجتهادات المعاصرة المعتبرة، الصادرة من جهات موثوقة، أو من علماء مشهود لهم بالكفاية والأمانة بعيدا عن التعصب وضيق الأفق.
5- توحيد جهود العلماء ومواقفهم الفكرية والعملية، في قضايا الأمة الكبرى، لتبصير الأمة بمواقع الخطر، والأبواب التي تهب منها رياح الفتن، حتى لا تؤخذ الأمة على غرة، أو تقوض دعائمها، أو ينتقص من أطرافها، وهي غافلة عما يدبر لها. فالعلماء هم عينها التي بها ترى، كما أنهم لسانها الناطق باسمها، المعبر عنها كلما ادلهمت الأحداث، وبدت نذر الخطر، وإصدار البيانات التي توجه الأمة إلى المواقف الإيجابية المتوازنة في القضايا الساخنة والمثيرة.
6- تجميع قوى الأمة كلها، على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، ماداموا من أهل القبلة الملتزمين بالقرآن والسنة، والسعي إلى تضييق نقاط الافتراق، وتوسيع نقاط الاتفاق، والتركيز على القواسم المشتركة، والاستهداء بالقاعدة الذهبية الشهيرة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ونتسامح ونتحاور فيما اختلفنا فيه) وبهذا نواجه أعداء الأمة صفا واحدا.
* وسائل الاتحاد:
يتخذ الاتحاد لتحقيق هدفه الكلي وأهدافه الفرعية، كل الوسائل والأسباب المشروعة المتنوعة، التي تلتقي كلها عند الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والحوار بالحسنى، والإقناع بالحجة، باللسان أو بالقلم، بالكتاب والصحيفة، أو بالإذاعة والتلفاز، أو بالقنوات الفضائية، أو شبكة الإنترنت، أو غيرها من الآليات المعاصرة..
* نبني ولا نهدم نُجمِّع ولا نُفرِّق:
وقد قلت في كلمتي في الجمعية التأسيسية للاتحاد: إننا لا نريد بهذا الاتحاد الصدام مع أحد، لا في الخارج ولا في الداخل، لا نريد الصدام في الخارج مع الغرب المسيحي ، ولا مع الشرق الوثني، كما لا نريد الصدام في الداخل مع الحكومات المحلية، ولا مع الجماعات الدينية، والحركات الإسلامية؛ بل نريد أن نتعامل مع الجميع بروح الناصح الأمين، وعاطفة الأخ المشفق، ويد الجراح المداوي، نؤثر الرفق على العنف، والرحمة على الشدة، والحق على القوة، وندفع السيئة على الحسنة، بل بالتي هي أحسن، كما أمرنا القرآن الكريم.
لقد دعوت من قديم إلى قبول تعدد الحركات والجماعات الإسلامية، على ما بينها من فروق و وجهات نظر مختلفة، في الأهداف والمناهج والمواقف، ولا مانع من ذلك ما دام الجميع يعمل لخدمة الإسلام، وإحياء أمته، وتوحيد كلمتها، وتحريرها من كل سلطان أجنبي؛ على أن يكون بين الجميع قدر من التنسيق والتفاهم، وأن يقفوا في القضايا المصيرية للأمة صفا واحدا، وجبهة متراصة في وجه أعداء الأمة. كما قال تعالى: {إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صِفًّا كَأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف4].
وإذا كانت المسيحية قد تقاربت مع اليهود، وأصدر الفتيكان وثيقته التاريخية بتبرئة اليهود من دم المسيح. ورأينا الكنائس المسيحية يقترب بعضها من بعض، برغم ما بينها من عداءات تاريخية، ومن فوارق عقدية، تجعل كل مذهب دينا غير الدين الآخر.
- فلماذا نرى المسلمين وحدهم هم الذين يتباعدون ولا يتقاربون؟!
مع أن التقارب بينهم فريضة وضرورة: (فريضة) يوجبها الدين، و(ضرورة) يحتمها الواقع..
إننا نعلن هنا: أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يسعى بكل جهده إلى التقريب بين أبناء الأمة جميعها، محاولا أن يذيب الفوارق والاختلافات التي تريد أن تجعل من الأمة الواحدة أمما، وأن تقسمها إلى شيع وأحزاب: {كُلَُ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون53]
يجب أن يعلو الإسلام فوق المذاهب وتعلو وحدة الأمة على كل الاختلافات: الطائفية والعرقية والإقليمية والإيديولوجية والطبقية وغيرها، وأن تتوحد الأمة تحت راية التوحيد، متخذة من القرآن معيارها، ومن السنة منارها. ولاسيما بين الجماعات والاتجاهات العاملة للبعث الإسلامي، والتحرر الإسلامي، والميدان يتسع للجميع، ويتطلب تكاتف الجميع، فلا مجال للخلافات الفرعية، والمعارك الجانبية.
* الحوار الإسلامي المسيحي:
ونود أن نعلنها صريحة: أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليس اتحادا منغلقا على نفسه، بل هو مفتوح الأبواب والنوافذ على العالم من حوله مِنْ الأديان والحضارات والفلسفات. وهو – من منطلقه الديني المحض – يؤمن بالتعددية العرقية، والتعددية اللسانية، والتعددية الدينية، والتعددية الثقافية، والتعددية السياسية. وأن الله هو الواحد، وما عداه متعدد. وأن هذا التعدد واقع بمشيئة الله المرتبطة بحكمته، وهو يؤمن بضرورة حوار المختلفين، لا بحتمية الصراع بينهم، وأن الحوار يمكن أن يثمر إذا استقامت أهدافه وأخلصت أطرافه، وصفت النيَّات، والتزم فيه بأدب الحوار، فكان - كما أمر القرآن – جدالا بالتي هي أحسن.
لهذا نرحب بالحوار الإسلامي المسيحي خاصة، لما للمسيح وأمه وكتابه من منزلة خاصة لدى أهل الإسلام. ونرى أن هناك مجالات مهمة يمكن للطرفين أن يتعاونا فيها بوضوح أذكر منها:
أولا: مجال الإيمان بالله والدار الآخرة، في مواجهة المادية العاتية، التي تنكر الغيب وكل ما وراء الحس، وتشيع الإلحاد في العالم، وترى أن قصة الحياة كلها: أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا شيء بعد ذلك {نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إلا الدَّهْرُ} [الجاثية24]
ثانيا: مجال القيم الأخلاقية، في مقابل موجة الإباحية والتحلل، التي تكاد تدمر الفضائل الإنسانية الرفيعة، التي توارثتها البشرية من مواريث النبوة الهادية : من الحياء والعفاف والإحصان والإيثار والأخوة.
ثالثا: مجال العدل والكرامة والحرية، وكل ما يتعلق بحقوق الإنسان، وسيادة الشعوب، وحقها في استرداد حقوقها، وحريتها في أرضها، وأبرز مثال لذلك: حق الشعب الفلسطيني المظلوم الذي تسفك كل يوم دماؤه، وتدمر منازله، وتجرف أراضيه، وتقتلع أشجاره، وتنتزع منه أرضه، وتستباح حرماته، وتداس مقدساته، على مرأى ومسمع من العالم المتحضر.
* الإسلام والغرب:
كما أننا نريد أن نتعامل مع الغرب من منطلق إنساني وأخلاقي وإيماني، وأن ننادي أحرار الغرب بما نادى به الإسلامُ أهلَ الكتاب من قبل: {تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ ألا نَعْبُدَ إلا اللهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [آل عمران]
نريد أن نتعامل مع الغرب وأن يتعامل معنا الغرب معاملة الند للند، وأن يتخلى عن عقده الموروثة من عهد الحروب الصليبية القديمة، وعهد الاستعمار الحديث، فنحن أبناء اليوم لا بقايا الأمس..
* الإسلام والعنف:
لقد ألصقت بالإسلام تهم هو بريء منها، فزعم زاعمون أنه دين يفرز العنف، ويثمر الإرهاب. والحق أن الإسلام اعتبر الرحمة عنوانا له، فقال الله لرسوله: {ومَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ} [الإنبياء107]، وقال الرسول عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة"
وحرص الرسول الكريم على الرفق، وذم العنف، وقال: "من حرم الرفق فقد حرم الخير كله"[11].
كما دعا إلى السلام بين الناس، إلا إذا تعرضت أمته وحرماتها للعدوان، فهنا يخوض المعركة حينئذ كارها، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة216].
وإذا انتهى اللقاء بين المسلمين وخصومهم بغير قتال، عقب القرآن على ذلك بمثل قوله تعالى: {وَرَدَّ اللهُ الذينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ القِتَالَ وكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب 25].
وإذا خاض الإسلام الحرب مضطرا فإنه يقيدها بقيم أخلاقية تضبط سيرها، قبل المعركة وخلالها وبعدها، فيُحرِّم العدوان، وينهى عن قتل النساء والولدان والشيوخ والرهبان والحرث والمدنيين بشكل عام {وقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة 190]
* تسمية المجلة:
لقد اخترنا أن يكون اسم مجلة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:(الأمَّةُ الْوَسَطُ)، وكان يمكن أن تسمى بأسماء أخر، ولكننا آثرنا هذا الاسم لأمرين:
أولا: أن المجلة تعبر عن أمة كبرى، وليس عن شريحة معينة ولا بلد معين، ولا حزب ولا جماعة، ولكنها تدور حول محور كبير هو الأمة، وإذا ذكرت الأمة فالمعني بها: أمة الإسلام، أمة القرآن، أمة محمد عليه الصلاة والسلام، في مشرق أو مغرب، حيثما ارتفعت المآذن، وحيثما وجد من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
ثانيا: أن هذه الأمة لها صفة تميزها، وعنوان يعلن عن شخصيتها، وهو الوسط، فالوسطية صفة أصيلة، ومزية جوهرية في هذه الأمة. {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة 143].
وبهذا يتضح لنا من أول يوم: في أي خط تسير فيه المجلة: إنه خط التوسط والتوازن والاعتدال، لا غلو ولا تقصير، لا تشديد ولا تسيب، لا إفراط ولا تفريط، لا طغيان في الميزان، ولا إخسار في الميزان، كما عبر القرآن الكريم بقوله: {ألا تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ* وأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن8-9].
ومن فضل الله عليَّ: أني تبنيت منهج الوسطية من قديم، منذ دخلت ميدان التأليف بكتابي (الحلال والحرام). وزادتني الأيام استمساكا به، وحرصا عليه: في التعليم، والدعوة، وفي الفتوى، وفي الإصلاح والتجديد. وقد كان هناك من قبل من يهاجم الوسطية، على أنها تعني التساهل في أمر الدين. والحمد لله، أصبح الجميع الآن ينوهون بها، وينادون بالرجوع إليها، والتمسك بها، ويقيمون المراكز والمنتديات للدعوة إليها ونشر أفكارها.
وحتى لا تظل كيانا هلاميا، يدعيه لنفسه من يشاء، ويفسره كما يشاء، فقد وضعت لها ثلاثين معلما، يجلي مقوماتها، ويبرز خصائصها، ويكشف اللثام عن مفاهيمها وقيمها ومبادئها.
ومما أحمد الله عليه: أن الرسالة الأولى التي إلى علماء المسلمين في مختلف الأقطار، لأعرض عليهم فكرة الاتحاد وأهدافه ووسائله وخصائصه، تضمنت الإشارة إلى الوسطية الجامعة المتوازنة والمتكاملة، منهجا للاتحاد، وكان جواب الجميع عليها بالإيجاب.
ولما عهد إليَّ مجلس أمناء الاتحاد ومكتبه التنفيذي: أن أكتب مسودة الميثاق الإسلامي الذي ينطلق منه العلماء بعد الموافقة عليه: كان من معالمه الأساسية الوسطية الإسلامية. وكانت الروح المبثوثة في كل سورة هي الوسطية، وقد لقي هذا الميثاق القبول من علماء الأمة، بعد أن أبدوا ملاحظاتهم عليه، وعدلوا ونقحوا، وأخذ ذلك كله بعين الاعتبار، ولاسيما في الطبعة الثانية..
وكان من توفيق الله كذلك: أن وكل مجلس الأمناء أمر المجلة إلى واحد منهم، معروف بسعة أفقه، وعمق تفكيره، ومعايشة عصره، وعمق إيمانه، وسمو خلقه، وتحرره من الانتماءات إلا إلى الإسلام وقيمه وحضارته، لا يمكن أن يزايد عليه أحد في معرفة العصر، أو يتهمه بالرجعية أو الحزبية أو التشدد، فهو ممن يجمعون بين الأصالة والمعاصرة، وبين الدين والعلم، وبين العقل والنقل، وبين ثوابت الدين، ومتغيرات الدنيا. أحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكيه على الله. إنه المفكر المسلم الأصيل الأستاذ الدكتور عبد الرحمن طه، حفظه الله، وسدد خطاه، وأنار بصيرته، وألهمه الحكمة وفصل الخطاب، هو ومن يعاونه من إخوانه الفضلاء، بارك الله فيهم جميعا ونفع بهم.
وهذا هو العدد الأول لمجلتنا، وهو باكورة يأتي بعدها الغيث، وتتوالى بعده الأعداد والأمداد. أدعو الله تعالى أن يبارك في هذه المجلة ويجعلها منارا للهدى، ومنبرا للفكر الإسلامي الحر، ونشر الثقافة الحية الأصيلة، التي تسعى إلى توضيح الغاية، وإضاءة الطريق، وتفقيه الأمة، وتجديد الدين، وحوار خصومه بالتي هي أحسن، ووصل علماء الأمة بعضهم ببعض.
{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنا واغْفِرْ لنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [التحريم8]..
الفقير إلى ربه
يوسف القرضاوي
2009م
[1] - الإحياء (1/4)، دار المعرفة ببيروت.
[2] - رواه الدارمي في العلم (225)، عن عطاء ابن أبي رباح.
[3] - ذكره الغزالي في الإحياء (1/7)، عن أبي الأسود الدؤلي.
[4] - من شعر ذو اللسانين النطنزي.
[5] - رواه البخاري في فضائل القرآن (5027).
[6] - سبق تخريجه صـ .
[7] - سبق تخريجه صـ .
[8] - رواه الترمذي في الفتن (2166)، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني في إصلاح المساجد (61)، عن ابن عباس.
[9] - رواه أحمد (21710) وقال مخرجوه: إسناده حسن، وأبو داود في الصلاة (547)، والحاكم في التفسير (2/482) وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (556)، عن أبي الدرداء.
[10]- متفق عليه: رواه البخاري في الصلاة (481), ومسلم في البر والصلة والآداب (2585), عن أبي موسى الأشعري.
[11] - رواه مسلم في البر والصلة (2592)، وأحمد (19208)، وأبو داود في الأدب (4809)، وابن ماجه في الأدب (3687)، عن جرير بن عبد الله.