الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على رسله الذين اصْطفَى، وعلى خاتَمِهِم المُجْتَبَى، محمدٍ وآله وصحبِه ومن بهم اقْتَدَى فاهتدَى.

(أمَّا بعد)

فقد عرفتُ العالمَ العامل، والقاضيَ الفاضل، الشيخَ أحمد بن حجر -حفظه الله ورعاه(1)- منذ قدمت إلى قطر، منذ نحو سبع وثلاثين سنة، وعرفه الخاصة والعامة كذالك، من علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم والعمل والغيرة على الإسلام، والدفاع عن عقيدته وشريعته، وعن قرآنه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

كما عرفتُ من مزاياه: أنه رجل طلعة، يحبُّ القراءة، ويحرص على الاطِّلاع، ولا يدَّعي أنه عرف كلَ شيء، بل يطبِّق ما قاله السلف: اطلب العلم من المهد إلى اللحد. ولا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل.

ولا يسمع بكتاب علمي له قيمة ظهر في السوق، إلا سارع إلى اقتنائه، ولذا تجد مكتبته عامرةً بالكتب، حافلةً بالمراجع القيِّمة، في كل جوانب المعرفة الإسلامية.

وقد عاش العلامةُ الشيخُ ابن حجر طوال عمره في خدمة الإسلام قاضيا يحكم بالشرع، وخطيبا يصْدَعُ بالحقِّ، ومصنِّفا يطارد الباطل، فقد جنّد قلمه كما جنّد لسانه، لبيان المعارف الشرعية الصحيحة، والردّ على أباطيل خصوم العقيدةِ والشريعة، يفنِّد الشبهات، ويدحض المفتريات، ويتعقب المنحرفين، يكشف سِترهم ويفضح زيفهم.

هكذا رأيناه يردّ على منْ تطاول على عقيدة السلف.

يرد على القاديانية ونحلتها الضالة.

ويرد على من زعم أن الرسول  صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب في أواخر حياته.

ويرد على من دعا إلى التمذهب والتعصب والتقليد.....

ويرد على من لعن الصحابة والتابعين.

وهو في كتابنا هذا الذي نقدِّمُه اليوم (المُجْتَبَى في تحريم الربا) يرد على المهزومين أمام حضارة الغرب ونظامها الرأسمالي، الذين يحرفون الكلِمَ عن مواضعه، ويلوُونَ أعناق النصوص من آيات القرآن وأحاديث الرسول الكريم، بالتأويلات المتعسّفة، حتى تبرر الفوائد الربوية، والتي هي -مع الاحتكار- عصبُ الرأسمالية الغربية ذات المخالب والأنياب المفترسة.

كما يرد الشيخ أكرمه الله على أولئك المتلاعبين بشريعة الله، الذين أرادوا أن يحلّوا ما حرم الله من فوائد البنوك التي أجمع العلماء في كل المجامع الفقهية والشرعية أنها هي الربا الحرام.

والشيخ في هذا الكتاب -كما في غيره- لا يعتمد على رأيه أو هواه، أو على قول فلان أوعلان من الناس إلا من باب الاستئناس، إنما عمدته أبدا: محكمات الأدلة من كتاب الله تعالى ومن صحيح سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وهما المُعْتصَمُ الأمينُ لِمَنْ تمسّك بهما، ورَدَّ المتنازَعَ فيه إليهما، كما قال الله تعالى: {فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيءٍ فَرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ واليومِ الآخرِ} [النساء:59].

قد يختلف معه عالمٌ أو آخر في استدلاله بهذا النص أو ذاك، وفي فهمه لهذه الجزئية أو تلك، ولكن لا يشك عالمٌ في أصالته العلميّة، وفي مَلَكَتِه الفقهيّة، وفي تمكُّنه من العلوم الشرعية.

فشكر الله للشيخ ابن حجر سعيه، وجزاه عن العلم والإسلام خير ما يجزى به العلماء العاملين، والدعاة الصادقين {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ ويَخْشَوْنَهُ ولا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلا اللهَ وكَفَى باللهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39].

الفقير إليه تعالى

يوسف القرضاوي

-------------------

(1) كتب فضيلته هذه الكلمة قبل وفاة المؤلف رحمه الله.