عرفت الأخ الشيخ عبد السلام البسيوني قبل أن ألقاه، عرفته من نفثات قلمه، في بعض ما كان يكتبه في الصحف القطرية، فوجدت في هذه النفثات عبق الأديب، ومهارة الصحفي، وغيرة المؤمن، وروح المقاتل، وأحببته قبل أن أراه، والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.

ثم لقيته بعد ذلك في جلسات علمية ودينية، وفي حوارات فكرية وإسلامية، وفي لقاءات قصيرة ومطولة، وقرأت بعض ما أخرجه من كتب العقلانية : "هداية أم غواية"، و"فقه الواقع.. رسائل إلى الإسلاميين"، "هل بالإسلام حرية للرأي؟"، وقرأت ديوانه الشعري: "الذئبة التائبة"، وغيرها من البحوث والدراسات والمقالات.

فوجدت وراء هذا الإنتاج - كما عرفت بالمعايشة والممارسة - في الشيخ عبد السلام رجلاً متعدد المواهب ، متنوع القدرات والملكات؛ فهو خطاط يحسن الكتابة، رسام يحسن الصورة، خطيب يتقن الخطبة، مؤلف يتفنن في التأليف، شاعر يبدع في القصيدة، صحفي يصور بالكلمة، محاور يُحِكم توجيه السؤال، مسلم يحمل هموم الدين والأمة، مثقف يعيش عصره، ويأخذ منه ويعطيه، ولكن لا يُسِلم له قياده، بعد أن أسلم وجهه لله، واستمسك بالعروة الوثقى.

وباختصار، رأيته يحمل روح الفنان مع روحانية الداعية، وعقل الباحث مع قلب المؤمن وريشة المصور مع سيف المجاهد.

ما لقيته إلا ألفيته يتمزق ألمًا وأسىً لما يصيب الأمة من أعدائها حينًا، ومن أبنائها حينًا، وأراه يحترق من الداخل وهو يتابع الأقلام المسعورة، والأدوات المأجورة، تنهش لحم الإسلام، وتنتهك حرماته وتتطاول على دعاته، وتهزأ بشرعه، وتشوه ماضيه وحاضره، ولا تجد من يقف لها بالمرصاد ليكشف عوارها، ويبرز بهرجها، ويبطل زيفها!

أما هو فقد وظف قلمه الرشيق لمتابعة هؤلاء، والتصدي لأباطيلهم، وألاعيبهم المكشوفة والمقنّعة، من المنافقين والمنافقات الذين قال الله تعالى فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة:67].

وهذا الكتاب الذي أقدمه لك اليوم - أيها القارئ العزيز - جزء من هذه المعركة الضارية والمستمرة بين البسيوني وهؤلاء، من سماسرة التنوير وأدعياء التحرير؛ تحرير المرأة فيما يزعمون، وهم في الحقيقة دعاة التحليل لها : أن تتحلل من الدين والأخلاق، والقيم والتقاليد وأن يجعلوا منها كرة تعبث بها الأيدي وتتقاذفها الأقدام !

ونظرًا لأن هذا الكتاب كان - في أصله - مجموعة مقالات نشرت في الصحافة، وكانت هذه المقالات لها طبيعة المواجهة والمقاومة للهجمة الشرسة، والحملة المكثفة على الإسلام في قضية لعلها أخطر القضايا الاجتماعية - وهي قضية المرأة - نجد لهذا الكتاب خصائص معينة:

    فهو يستخدم أسلوب السخرية والتهكم بهؤلاء الساخرين من دينهم وتراثهم وحضارتهم وأمتهم، وهو أسلوب استخدمه القرآن واستعمله الرسل الكرام :{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة:79]. {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[هود:38؟]، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان49].

وهو يستخدم اللغة العامية في بعض الأحيان كما يستعملونها؛ لأنه يجدها أدل على ما يريد في هتك سترهم، وهدم باطلهم. وهو يحاربهم بمثل سلاحهم؛ كما قال أبو بكر لخالد - رضي الله عنهما - هذا مع أن لغته الفصحى لغة راقية بإجماع كل من قرأ له. واقرأ مقالات: ملكات الجمال المسلمات، رجعيون سخفاء، عواطف، الوأد الحضاري، التعدد الحرام، الحج إلى سدوم وعمورة، وهل الرقص حرام يا متزمتون ؟، ثقوب في الآدمية، وغيرها، تجد اللغة الحلوة الرفيعة التي كنت أود للشيخ البسيوني أن يلتزمها، ويتشبث بها مهما يكن الباعث الشريف عنده على استخدامه العامية المصرية، التي يروج لها أعداء الإسلام؛ مما لا يخفى على مثله، والتي لا تكاد تُفهم إلا في مصر وحدها .

    وهو كذلك يُدخل بعض الكلمات الأجنبية التي تروج بين هؤلاء؛ ليعري زيفهم وتضليلهم بمصطلحاتهم وأساليبهم؛ أحيانًا يكتبها بالحرف العربي مثل : الهوت شورت، والبير شست، والاستريتش، وأحيانًا يكتبها بالحرف اللاتيني .
    وهو قد يستخدم أسلوب المبالغة على الطريقة الكاريكاتيرية في تجسيم بعض الملامح أو العيوب وتضخيمها، ولا حرج في ذلك؛ فالكتاب ليس دراسة شرعية - وإن كان الشرع منطلقه وغايته - ولكنه مواجهة إعلامية عصرية.

وإذا كانت الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان، فإن الإعلام وأدواته أولى بالتغير. ومع هذا نجد له كلمات في غاية القوة والرصانة اقرأ هذه الفقرة :

صلى الله عليك يا رسول الله: لقد أتى الزمان الذي أنذرتنا وأنبأتنا أنه سيظهر فيه قوم يستحلون الحِرَ - أي الزنا والعلاقات المحرمة - والحرير والخمر والمعازف، والذي لا يصدق هذا يمكنه أن يقرأ كتابات أمراء التنوير، الذين يملكون القدرة الفائقة على الإفتاء في معضلات المسائل الشرعية الإسلامية - بالذات - لأنهم قد فتح الله عليهم فصاروا يعرفون كل شيء؛ ابتداء من حكم حِل الخمر والرقص الشرقي، وفك عقد التخلف، وانتهاءً بنفي القرآن، وعزل النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لانتهاء عمره الافتراضي، ولأن دينه لم يعد مناسبًا للقرن العشرين. وأمثال هذه الكلمات يفيض بها الكتاب.

والحق أنها ليست مجرد كلمات كاتب؛ بل هي سهام محارب يرمي بها في صدور المهاجمين الطغاة، أحسنت تصويبَها يدٌ صناع، طالما امتدت ضارعة إلى الله تعالى، واشتركت مع الأعضاء السبعة ساجدة لله!

* لقد أعجبني في هذا الكتاب إهداؤه إلى أم سهيل - زوج الكاتب الأولى- التي ماتت شهيدة الغرق - عليها رحمات الله ورضوانه، قطرة من بحر فضلها- كما يقول الزوج الوفي الأصيل.

* وأعجبني فيه تتبعه لمواقع التغريب، وأوكار التخريب، ومراتع الرءوس المشبوهة، والوجوه المكروهة، من أعداء الدين والفضيلة، وأولياء الشيطان والرذيلة، الذين يريدون أن يجعلوا المرأة في أوطاننا بئرًا للقاذورات، ومزبلة يتجمع عليها الذباب من كل ناحية، وأن تكون بلادنا مثل تلك البلاد، التي لم تعد فيها فتاة واحدة عذراء !

*وأعجبني فيه اتجاهه إلى تبني التيسير والواقعية فيما يتعلق بأحكام الطلاق والخلع وحقوق المرأة، كما أعجبني كلامه الجيد البصير عن التعدد الحرام.

*وأعجبني نقده الإيجابي لخلو الساحة الإسلامية من قيادات إسلامية نسائية، تواجه القيادات العلمانية واليسارية، وهو ما ذكرته وركزت عليه من قبل في كتابي: أولويات الحركة الإسلامي، وأعجبتني نظرته المتوازنة إلى مشاكل المرأة المسلمة، وعدم الاكتفاء بالنظرة السطحية إليها.

ولكني أصارح أخي عبد السلام بأني لم أسترح لوجهة نظره فيما يتعلق بالزينة والزي والاختلاط كأنما لاحظت أنه يريد أن يفرض على المرأة زيًّا لا يتأثر مطلقًا بالعرف كما يفرض عليها عزلة تصونها وتحميها من أنياب الرجال.

والاختلاط بضوابطه الشرعية هو المطلوب، وهو الذي نستطيع أن نحارب به سماسرة التنوير، وملاحيس التحرير - كما سماهم الكاتب - وهو الذي يجمع كل التيارات والقوى الإسلامية في مواجهة التخريب الضخم الذي تقوم به العلمانية والماركسية.

لعل عذر الكاتب هو جنوح الآخرين -أبدًا- إلى التسيب بلا حدود، فالتطرف إنما يحارب بتطرف مثله، شاء المرء أم أبى، ثم تعتدل كِفتا الميزان، بالإضافة إلى حماس الشباب الغيور، وغيظ المسلم المقهور.

لا يقلل هذا من القيمة الكلية للكتاب في مقاومة موجة التحلل والإباحية، وتعرية دعاتها المعاندين من الخارج، والمسنودين من الداخل، الذين يعملون لحساب الصهيونية العالمية، والصليبية الغربية.

ولعل مما يشفع للكاتب شدته وحدته: هذه الفقرة من خاتمة كتابه؛ حين قال معتذرًا عن نبرة الغضب التي ربما برزت في بعض ثناياه:

أختـي المسلمـة: أحمد إليك الله تعالى، الذي بنعمته تتم الصالحات. وأستميحك العذر  إن علت نبرة الغضب - في أثناء هذه المقالات - إلى حدٍّ ما، فهي نفثات مصدور، وآهات متوجِّع، ورائحة كبدٍ، تحترق ألمًا على حال المرأة المسلمة التي يراد لها أن تضرب في تيهٍ، تنسلخ فيه كينونتها الخُلُقية والخَلْقية، وتخسر دنياها وآخرتها.

لا أنكر أن هناك إشكاليات اجتماعية نشأت من سوء فهم أحكام الشريعة؛ وعلى أساسها حجبت المرأة -أحيانًا- عن اختيار شريك حياتها، وعن الارتقاء في مدارج العلم، والمساهمة - المنضبطة - في نسيج المجتمع المسلم، وحُرمت أحيانًا من حقها في الميراث، أو حضانة الأبناء، لكن لا يشك عاقل منصف - فضلاً عن مسلم - أن هذا الخلل من المسلمين لا من الإسلام، ومن سوء فهم النصوص لا من إحسان تطبيقها .
إن هذا الكتاب قذيفة موجهة في المعركة بين الحق والباطل، بين الإسلام والجاهلية، بين الله والطاغوت.

ورغم ما يملك الباطل والجاهلية والطاغوت من أسلحة وفيرة ومتطورة، ومهما ظنوا أنهم مانعتُهم حصونُهم من الله، فإن قذيفتنا ستهزم أسلحتهم، وإن حقنا سيهزم باطلهم، وإن حصونهم المشيدة سيأتيها الله من حيث لم يحتسبوا، وسيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين كما قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}[الحشر:2]{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء:18]، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81].

تحية لأخي عبد السلام على مواقفه في نصرة الحق والصدق، وفي تقويض الباطل والزيف، ودعاء من الأعماق أن يسدد الله قلمه ولسانه، وأقلام إخوته المؤمنين الصادقين {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39].

الفقير إلى ربه يوسف القرضاوي

الدوحة في 14/1/1416هـ

12/6/1995م