د.يوسف القرضاوي

إن الإسلام دين واقعي، فهو يتعامل مع الإنسان كله: جسمه وروحه، وعقله ووجدانه، ويطالبه أن يغذيها جميعا، بما يشبع حاجتها ، في حدود الاعتدال، الذي هو صفة " عباد الرحمن": " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" (الفرقان:67)، وليس هذا خلقهم في أمر المال فقط، بل هو خلق أساسي عام في كل الأمور، هو المنهج الوَسَط للأمة الوسَطَ. وإذا كانت الرياضة تغذى الجسم، والعبادة تغذى الروح، والعلم يغذى العقل، فإن الفن يغذى الوجدان.

ونريد بالفن: النوع الراقي الذي يسمو بالإنسان، لا الذي يهبط به.

المنفعة والجمال في الكون

وإذا كانت روح الفن هي الإحساس بالجمال وتذوقه، فهذا ما عني القرآن بالتنبيه وتأكيده في أكثر من موضع.  فهو يلفت النظر بقوة إلي عنصر " الحسن" أو "الجمال" الذي أودعه الله في كل ما خلق، إلي جوار عنصر "النفع" أو " الفائدة" ‌فيه.

كما أنه شرع للإنسان الاستمتاع بالجمال أو "الزينة" مع المنفعة‌ أيضاً. يقول الله تعالي في معرض الامتنان بالأنعام: " وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ" (النحل:5)، و في هذا تنبيه على جانب المنفعة والفائدة، ثم يقول: " وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" (النحل: 6) ، فهذا تنبيه على جانب الجمالي، حيث يلفتنا إلى هذه اللَوحة الربانية الرائعة‌، التي لم ترسمها يد فنان مخلوق، بل رسمتها يد الخالق سبحانه.

وفي نفس السياق يقول سبحانه: "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً" (النحل: 8)  فالركوب يحقق منفعة مادية مؤكدة، أما الزينة فهي متعة جمالية فنية، بها يتحقق الكامل للوفاء بحاجات الإنسان، كل الإنسان.

و في هذا السياق من نفس السورة امتن الله تعالي بتسخير البحر فقال: "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" (النحل:14)، فلم يقصر فائدة‌ البحر على العنصر المادي المتمثل في اللحم الطري الذي يؤكل، فينتفع به الجسم، بل ضم إليه الحلية التي تلبس للزينة، فتستمتع بها العين والنفس.

وهذا التوجيه القرآني تكرر في أكثر من مجال، ومن ذلك: مجال النبات والزرع والنخيل والأعناب والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه، يقول تعالى في موضع من سورة الأنعام: "كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا" (الأنعام:141).

وفي موضع آخر من نفس السورة يقول بعد ذكر الزرع وجنات النخيل والعنب "انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآَيَاتٍ لَّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام:141) فكما أن الجسم في حاجة إلي الاستمتاع بالنظر إلي ثمره إذا أثمر ينعه. و بهذا يرتفع الإنسان أن يكون همه الأول أو الأوحد هو هم البطن!

و مثل ذلك قوله تعالي: " يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" (الأعراف:32). فأخذ الزينة‌ لحاجة‌‌ الوجدان، والأكل والشرب لحاجة الجثمان، وكلا هما مطلوب.

وكذلك نجد الاستفهام الإنكاري في الآية الثانية‌ ينصب علي أمرين: تحريم "الطَيِباَتِ مِنَ الرِزُقِ" و "زِينَةَ اللهِ"، تجسد عنصر الجمال الذي هيأه الله لعباده، بجوار عنصر المنفعة‌ الذي يتمثل في "الطَيِبَاتِ ِمنَ الرِزُقِ".. وتأمل هذه الإضافة‌ كلمة « زينة » - إلي لفظ الجلالة : " زِينَةَ اللَهِ " ففيها تشريف لهذه الزينة وتنويه به.

وفي هذا السياق، جاء قبل هاتين الآيتين قوله تعالي في شأن اللباس: "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ" (الأعراف:26)، فقد جعلت الآية اللباس – الذي امتن الله تعالي بإنزاله – أنواعاً ، و إن شئت قلت: جعلت له مقاصد و مهمات: مقصد «الستر» المعبر عنه بقوله: " يوَارِي سَوُءَتِكمُ" ، ومقصد «التجمل والزينة‌ » المعبر عنه بقوله:‌ "وَرِيشَاَ".

المؤمن وعناصر الجمال

إن المتجول في رياض القرآن يري بوضوح:‌أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن و قلبه الشعور بالجمال المبثوث في أجزاء الكون من فوقه ومن تحته و من حوله: في السماء‌، والأرض، والنبات، والحيوان، والإنسان .

في جمال السماء يقرأ قوله تعالي: "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ" ( سورة ق:6).

"َلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَّزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ" (سورة الحجر:16).

وفي جمال الأرض ونباتها يقرأ: " وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" (سورة ق:7)..

"وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" (سورة النمل:60).

و في جمال الحيوان يقرأ ما ذكر ناه قبل عن الأنعام: " كُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" (سورة النحل:6).

و في جمال الإنسان يقرأ: "وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ" (سورة التغابن:3) ، "الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)" سورة الانفطار.

إن المؤمن يري يد الله المبدعة في كل ما يشاهده في هذا الكون البديع، ويبصر جمال الله في جمال ما خلق و صور ، يري فيه "صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" (سورة النمل:33) ، " الَذِي أَحُسَنَ كلَ شَيُءٍ‌ خَلَقَه" (سورة السجدة:7).

وبهذا يحب المؤمن الجمال في كل مظاهر الوجود من حوله؛ لأنه أثر جمال الله جل وعل . وهو يحب الجمال كذلك؛ لأن «الجميل» اسم من أسمائه تعالي الحسنى وصفة من صفاته العل .وهو يحب الجمال أيضاً ، لأن ربه هو جميل يحب الجمال .


* عن كتاب " الإسلام والفن " لفضيلة الشيخ.