الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على رحمة الله للعالمين، وحجته على الناس أجمعين سيدنا وإمامنا ومعلمنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(أما بعد)

فإن (علم أصول الفقه) يعد بلا ريب- من مفاخر تراثنا العلمي الإسلامي، وهو علم إسلامي خالص، ابتكره المسلمون، على غير مثال سابق، وأبدعوا فيه، ولا يعرف مثل هذا العلم عند أمة من أمم الحضارات.

وقد أراد المسلمون بهذا العلم الفريد أن يضبطوا (الأدلة) التي تستنبط منها الأحكام التكليفية والوضعية، ويحددوا قواعد الاستدلال بها، فلا يقول من شاء ما شاء، وإنما ترد الفروع إلى أصولها، وترد الأصول إلى مصادرها المعصومة التي لا تضل ولا تنسى، وتفهم نصوص هذه المصادر وفق قواعد منضبطة.

 

ولا عجب أن يرى بعض أساتذة الفلسفة ومؤرخي الفكر الإسلامي: أن هذا العلم أدل على فلسفة المسلمين الحقة من (الفلسفة الإسلامية) الرسمية التي عرفت بهذا الاسم، وعرفت بها في تاريخنا المدرسة المشائية الإسلامية المعروفة، والتي مثلها الفلاسفة الكبار: الكندي والفارابي، وابن سينا، ومن سار على دربهم.

وكان أول من صنف في هذا العلم هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) أعني أنه هو الذي ألف فيه بطريقة علمية منهجية تأليفا مستقلا، تمثل في كتابه البديع (الرسالة) وإن كان هناك قبله أفكار متناثرة في كل مذهب تكون كثيرا من المادة الأساسية لهذا العلم، بل قيل: إن أبا يوسف أول من صنف في (أصول الفقه) ولكن لم يصلنا ما كتبه.

وقد تبع الإمام الشافعي رضي الله عنه مؤلفون، اتخذوا طرقا شتى، من أهل السنة ومن المعتزلة. فمنهم من اتخذ طريقة المتكلمين، التي تؤصل الأصول ثم تبني عليها الفروع لتؤصل الأصول، كما قيل: أن التطبيق يسبق النظرية.ومنهم من جمع بين الطريقتين، كما هو معلوم في تاريخ هذا العلم.

وكان من الذين ألفوا في الأصول من علماء الحنفية: العلامة الشاشي الذي تقدم كتابه هذا المختصر المفيد، الذي حققه ابننا العالم الباحث المدقق الشيخ محمد أكرم الندوي سدد الله خطاه.

والشاشي – مصنف الكتاب- نسبة إلى (شاش) وهي مدينة فيما وراء النهر، نسب إليها عدد من العلماء من الفقهاء والأصوليين والمفسرين والمحدثين والمتكلمين.

وأحسب أن مكانها الآن مدينة (طشقند) في دولة (أوزبكستان) من الجمهوريات الإسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي.

ومن علمائها من ينسبون إلى المذهب الحنفي، ومن ينتسبون على المذهب الشافعي، ومؤلفنا من الأحناف ولا شك.

ولكن من هو بالضبط؟ حاول المحقق أن يجد دليلا بيِّنا يكشف عن هويته، فلم يعثر عليه، وإن كان الأغلب أنه (نظام الدين الشاشي) الذي رجحه الحليمي، وإن لم يذكر لنا مصدر ذلك، ولا تفضيله.

وعلى أية حال، هو أحد الشاشيين الفضلاء، نسأل الله أن يجزيه خيرا عما خلَّف من علم، وإن كنا لا نعرف اسمه، فالله تعالى يعلمه ويثيبه على عمله ونيته.

أما الكتاب فإن من يقرؤه، يرى أنه مختصر نافع حقا، ويجد أنه يتميز بالإيجاز والتركيز، مع وضوح العبارة، وذكر الأمثلة من الفروع، والأدلة من النقل والعقل، وهو ما يتميز به علم أصول الفقه، كما قال الإمام الغزالي في مقدمة (المستصفى).

ولهذه المزايا عنى به إخواننا في المعاهد والكليات الدينية في الهند وباكستان وبنجلاديش وأفغانستان وبلاد آسيا الوسطى، منذ عدة قرون، وتوارثوا تقريره على الطلاب في مدارسهم، كما تناوله علماؤهم بالشرح والتعليق.

ولكن هذا الكتاب على أهميته العلمية والعملية، وطباعته عدة مرات في الهند وباكستان، لم يقدر له أن يطبع طبعة محققة تحقيقا علميا عصريا يليق به، حتى هيأ الله له الأخ الفاضل البحاثة محمد أكرم حفظه الله، فقام على خدمة الكتاب تحقيقا وتعليقا وتفسيرا وتخريجا، وقد قيل: من حقق كتابا فكأنما أحيا موءودة.

وإن هذا الجهد الذي بذله أخونا العزيز الشيخ محمد أكرم الندوي، لجهد مقدور ومشكور، عند الله وعند الناس، فقد أحيا الكتاب، وذلّل صعابه، وفتَح مغاليقه، ونور طريقه، وسَهَّله على الدارسين. فجزاه الله خيرا عما أنفق من وقت، وما بذل من جهد، وما قدم من نفع، وبارك في علمه وعمله، ونفع به المسلمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

 

----------
*تحقيق ومراجعة د. محمد أكرم الندوي