الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهيأ له من الأسباب ما يرفعه في مدارج الكمال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله معلما ميسرا، ولم يبعثه معنتا ولا متعنتا، وعلى آله وصبحه من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(أما بعد)

فإن الأولاد ـ بنين كانوا أو بنات ـ أمانة أو وديعة من الله استودعها آباءهم وأمهاتهم، فعليهم أن يحفظوها ويرعوها حق رعايتها، فإن الله تعالى سائلهم عنهم، فكل راع مسؤول عن رعيته، والوالد راع، وهو مسؤول عن رعيته. أمام ربه، وأمام ضميره، وأمام مجتمعه.

والأولاد من جهة أخرى: نعمة من الله تعالى على آبائهم وأمهاتهم، ومن واجبهم أن يشكروا الله على هذه النعمة، فيحسنوا تربيتهم وتأديبهم، حتى ينشأوا نشأة سوية، فيسعدوا بحياتهم ويسعدوا المجتمع من حولهم، ويكونوا قرة أعين لأهليهم، ومصدر خير لجماعتهم، كما قال تعالى على لسان عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان:74].

فكل أب صالح أو أم صالحة يتمنيان أن يكون أولادهما صالحين، كما قال سيدنا إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}[إبراهيم:40], {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}[إبراهيم:35].

وكما ذكر الله لنا الرجل الصالح حين يبلغ أشده مبلغ أربعين سنة، فيتوجه إلى الله بالدعاء قائلا: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الأحقاف:15].

وتربية الأولاد ليست مجرد أوامر عسكرية تفرض، ولا محفوظات معرفية تلقن، ولكنها علم وفن، وأدب وذوق، ومصاحبة ومعايشة، وقلب حان، وصدر حنون، وحضن دافئ، وعاطفة فياضة، وملاحظة دائبة، وصبر ومصابرة، ويقظة للحركة والسكنة، وانتباه للضحكة والآهة.

إن التربية الصحيحة قد يقوم بها الأب الأمي بالفطرة، وقد يفشل فيها الأب المتعلم؛ لأن التربية تحتاج إلى عقل يلاحظ ويدرك، وإلى قلب يحب ويعطف، وإلى إرادة قوية تحسم عند الحاجة إلى الحسم.

إن التربية قد تكون بالبسمة الناعمة، وبالكلمة الحلوة، وبالقبلة على الخدين، وبالضمة والمعانقة، وبالمكافأة على الفعل الجميل، والسلوك الطيب، وبالثناء والتشجيع، كما تكون بالنظرة الغاضبة عند اللزوم، وبالكلمة الحسنة عند الضرورة، وباللوم المناسب عند الخطأ المقصود.

إن بعض الآباء والأمهات كثيرا ما يخطئون، فيضعون اللين موضع الشدة، أو الشدة موضع اللين، فيفسدون من حيث يريدون أن يصلحوا، وقد قال أبو الطيب:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

 

مضر، كوضع السيف في موضع النداء

إن كثيرا من الوالدين يضعون أولادهم بين إفراط القسوة، وتفريط التدليل، والتربية المنشودة بين هذه الطرفين، وخير الأمور الوسط.

وأحب أن أبين أن (التربية الإسلامية) التي ننشدها هي أكبر وأوسع أفقا من مجرد (التربية الدينية) التي قد يتصورها بعض الناس. إن التربية الدينية شعبة من التربية الإسلامية.

التربية الإسلامية تشمل: التربية العقلية، والتربية الخُلُقية، والتربية البدنية، والتربية العلمية، والتربية الأدبية، والتربية المهنية، والتربية الاجتماعية، والتربية الفنية (الجمالية) والتربية الجنسية، والتربية العسكرية، وغيرها من شعب التربية، إلى جوار التربية الدينية أو الروحية.

وتربية الإنسان المسلم تمتاز بأنها تعد الإنسان ليكون صالحا في الدنيا، سعيدا في الآخرة، محمودا عند الناس، مرضيا عند الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم:6].

فليس المطلوب أن توفر لولدك احتياجاته الدنيوية، ويهيئ له من التعليم ما يبوئه أرقى المناصب، دون أن يتعلم واجبه نحو ربه، ونحو آخرته وحياته الباقية، فيكون مصيره إلى النار، ومن ذا الذي يرضى أن يكون مصير ولده وفلذة كبده النار؟!

إن التربية مهمة صعبة، وهي في هذا الزمن أشد ما تكون صعوبة، فلم يعد الأب والأم وحدهما اللذين يقومان بالتربية، بل تشاركهما قوى كبيرة، ومؤسسات خطيرة: تؤثر في توجيه الأولاد أكثر من الأبوين: من المدرسة والتلفاز والإذاعة والصحافة والشارع والأصدقاء والبيئة الاجتماعية كلها. وهنا تتصادم الاتجاهات، وتتنازع الإرادات والرغبات.

وهنا تحدث المشكلات التي تحتاج إلى حلول، والتساؤلات التي تفتقر إلى أجوبة، والمطبات التي يقع فيها الأبناء والبنات، والتي يقف آباؤهم وأمهاتهم حيارى حيالها، ويحتاجون إلى المرشد الذي يوجههم إلى السلوك الأمثل، والمنار الذي يهدي للتي هي أقوم.

وهنا يتدخل إخواننا في هذا القسم في موقعنا الإسلامي المبارك (إسلام أون لاين) بما يقدمونه من إرشادات وحلول، مستعينين فيها بالمختصين من التربويين والأطباء، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع وغيرهم. وهو ما أرشدنا إليه القرآن حين قال: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:59]، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:14].

خذ مثلا طفلا يول على نفسه، وقد كبرت سنه، وأبوانه ينهرانه ويقسوان عليه من أجل أنه لا ينظف نفسه، ويمسك بوله، كبقية الأطفال. وربما كان سبب ذلك عيبا عضويا يحتاج إلى الطبيب المختص. وقد يكون سببا نفسيا يحتاج إلى المعالج النفسي.

وهكذا بالتفاهم والمصارحة والتعاون يمكن الوصول إلى علاج للمشكلة.

جزى الله إخواننا المسؤولين عن باب (تربية الأبناء) في إسلام أون لاين: خيرا عما قدموه لإخوانهم وأبنائهم من المسلمين والمسلمات.

وقد رأينا من الخير أن نطبع هذه الحصيلة من الإجابات والإرشادات، لينتفع بها المسلمون بالقراءة، كما انتفع بها من تابعها في الموقع. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

الفقير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي

------------------

*استشارات وردود على موقع إسلام أون لاين السابق.