الحمد لله الذي نزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والصلاة والسلام على رسوله وصفيه الذي أرسله رحمة للعالمين، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(أما بعد)
فنحن المسلمين نؤمن إيمانًا يقينيًا بأن الإسلام الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وختم به رسالات السماء: دعوة للعالم كله، أحمره وأسودُه، شرقيُّه وغربيُّه، لأن الإسلام يؤمن أن البشرية كلها (أسرة واحدة) تنتمي من ناحية الخلق إلى (رب واحد) هو الذي خلق الناس جميعًا، وهو (الله) جل شأنه، كما تنتمي من ناحية النسب إلى (أب واحد) هو آدم عليه السلام أبو البشر.
وفي هذا قال رسول الإسلام للجموع الحاشدة في حجة الوداع: " أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد"[1].
فمهما تختلف أعراق البشر، أو ألوانهم، أو ألسنتهم أو أوطانهم، أو طبقاتهم الاجتماعية، فهم متساوون في مخلوقيتهم لله، وفي بنوتهم لآدم. لذا ناداهم القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}[النساء:1].
ولا غرو أن أعلن القرآن منذ عهده المكي عن عالمية دعوته بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل، كما قال تعالى لرسوله في سورة الأنبياء – وهي مكية- :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [آية:107]، وقال في سورة سبأ – وهي مكية- : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[آية:28]. وقال في سورة الفرقان المكية: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [آية:1]، وقال في أكثر من سورة (ص، ن، التكوير) عن القرآن: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}. وقال يخاطب رسوله في سورة الأعراف المكية:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الآية158].
كل هذه الآيات تؤكد: أن عالمية الرسالة القرآنية المحمدية مقررة من أول يوم، كما تشير إلى ذلك أول آية في القرآن من سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأول الآيات في آخر سورة في القرآن : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} ليس رب العرب وحدهم، ولا رب الشرقيين وحدهم، بل ولا رب المسلمين وحدهم، ولكنه رب العالمين، ورب الناس أجمعين.
وهنا يرد سؤال يحتاج إلى جواب وهو: كيف تكون الرسالة عالمية، وقد بعث بها رسول عربي، أُنزل عليه كتاب بلسان عربي؟.
والجواب: إن سنة الله أن يرسل كل رسول إلى قومهم بلسانهم ليبين لهم ما أنزل الله إليه، وما أمره بتبليغه، ليفهموا عنه ويبلغوا ذلك إلى غيرهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }[إبراهيم:4].
ثم على قومه بعد ذلك أن يقوموا بنقل هذه الرسالة من لسانهم إلى الألسنة الأخرى، عن طريق الترجمة، كما فصل ذلك علماؤنا. وقد بلغ الرسول ما أنزل إليه من ربه، كما أمره الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }[المائدة: 67].
ولا ريب أنه عليه الصلاة والسلام بلغ رسالة ربه { الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [المائدة:92] كما وصفه الله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[التغابن:12]، بلغه أولا إلى عشيرته الأقربين أولا، ثم إلى أم القرى ومن حولها، ثم حين أتيحت له أول فرصة بعد صلح الحديبية: بلغ الرسالة إلى كسرى وقيصر، والنجاشي، والمقوقس وغيرهم من الأمراء، ليقيم الحجة عليهم، ويحملهم تبعة شعوبهم، الذين حجبوا عنهم وصول الدعوة إليهم.
وعلى أمته من بعده أن تبلغ رسالته إلى العالم، فهي مخاطبة بما خُوطب به من البلاغ والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة الموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. كما قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف:108]، فكل من اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة.
فالأمة إذن مبعوثه بما بعث رسولها إلى العالم، وهي تحمل الرسالة من بعده إلى العالمين، وعليها أن تؤمن بأنها أمة (مبعوثة) (وأن رسالتها عالمية)، ولهذا قال لها الرسول: " إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"[2] رواه البخاري وغيره.
وقال ربعي بن عامر لرستم قائد قواد الفرس: "إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده..."[3].
وبهذا تستحق الأمة أن تكون (شهيدة على الناس) كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }[البقرة: 143].
وهذا يوجب على الأمة: أن تبلغ رسالة القرآن، ورسالة محمد، إلى العالمين، وهذه مسؤولية كبيرة، تقتضي من الأمة أن تعد لها العدة، وأن تتخذ لها الأسباب والوسائل والآليات التي تناسب الزمان والمكان، وتتطور بتطور العصور.
وهذا يستوجب من الأمة: أن تكون لديها جيوش جرارة، لا من حملة السيوف والبنادق، ولكن من حملة الأقلام والأفكار، العارفين المتقنين للغات، القادرين على التحرير والخطاب المبين، وهذا للأسف ما ليس عندنا عشر معشاره، ولا واحد في ألف مما هو مطلوب منا.
وأول ما ينبغي نقله إلى العالم من رسالة الإسلام، ودعوة محمد عليه السلام، هو: القرآن الكريم. الذي تتطلع الأمم المختلفة إلى أن تقرأه وتعرفه، ولا يغنيها عنه كتاب ولا رسالة ولا محاضرة.
وهذا ما قصّرت فيه أمتنا كل التقصير، وهو ما نبهت عليه مرات كثيرة في مناسبات شتى، حتى قلت: إن اللغة الإنجليزية التي هي أكثر اللغات انتشارًا في العالم، والتي يتكلم بها مئات الملايين من المسلمين في آسيا وأفريقيا وغيرهما لا يوجد فيها ترجمة لمعاني القرآن يرضى عنها المسلمون العارفون باللغات، عن سلامة مضمونها، وعن حسن تعبيرها.
وأنا أقول هذا نقلا عن الذين يعرفون الإنجليزية والعربية من المسلمين الثقات.
واليوم قد ظهر عالم أزهري متمكن، يجيد معرفة اللغتين العربية والإنجليزية، وقد اطلع على الثقافتين: العربية الإسلامية، والغربية الأوروبية الأمريكية، وعاش في كليهما، وعرف خصائص كل منهما.
وقد أزعجه وأقلقه ألا يجد في الترجمات الكثيرة، وقد اجتهد في متابعتها ومعرفتها، والحكم عليها، فلم يسعه – بوصفه مسلما أولاً، وبوصفه عالمًا ثانيًا- أن يقف موقف المتفرج، بل دفعه إيمانه بعالمية القرآن، وعالمية الإسلام، وإيمانه بفرضية الدعوة على القادرين: أن يقدم شيئا لأمته وللعالم المتعطش إلى أن يعرف عن هذا الإسلام ما غاب عنه، وما شوّه صورته له المشوهون، وما شوش به المسلمون أنفسهم نظرا إلى سوء حالهم، وهوان أمرهم.
أراد هذا العالم الذي جمع الثقافتين، وتذوق اللغتين: أن يقوم بترجمة جديدة لمعاني القرآن تتلافى نقص الترجمات القديمة، وتتحرى صحة المعاني، وتدقق في المضامين، ينقلها إلى أصحاب اللغة بلسان إنجليزي مبين، كما قال.
ولقد حرص هذا العالم ـ الذي اضطلع بهذه المهمة الكبيرة ـ ألا يتسرع في هذه الترجمة، وأن يتريث فيها ويتأنى، وأن يعرضها على العارفين، ليبدوا رأيهم فيها، وهو يستمع إليهم جيدا ويأخذ بكل ملاحظة يبديها ذو رأي، ويصوب ما قد يكون وقع فيه من خطأ، ولو كان صغيرًا، بل يتطلع أبدًا إلى التي هي أحسن، بغية الوصول إلى ما يمكن للبشر من الكمال البشري.
ولذا استشارني في كثير من الأمور القرآنية، وأنا لا أعرف الإنجليزية، ولكنه يستشير كل عالم فيما يحسنه، ولا يمنعه كبر ولا حياء أن يستفيد منه، موقنا أن ليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم.
هذا العالم الذي نهض بهده المهمة الكبيرة هو صديقنا الأخ الجليل البحاثة الصبور، الداعية الموفق، الذي أحسب أنه قد أسقط بعمله فرض الكفاية – إلى حد بعيد – عن الأمة بالنسبة للغة الإنجليزية، الشيخ الدكتور أحمد زكي حماد، الذي أسأل الله تعالى أن يجعل عمله عملا علميا مباركا نافعا، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن يثَقِّل به ميزان حسناته يوم القيامة، وأن ينفع به كل من قرأه، وأن يثيب كل من أعانه على نشره وتعميم النفع به، وأن ينَحِّيهِ الزلل والخطل، إنه سميع الدعاء.
الدوحة في: غرة محرم 1427هـ | الفقير إلى عفو ربه |
31/1/2006م | يوسف القرضاوي |
[1] - رواه أحمد في المسند (23489) وقال مخرجوه: إسناده صحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(3/586): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، عن رجل من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم.
[2] - رواه البخاري في الوضوء (220)، وأحمد (7255)، وأبو داوود (380)، والترمذي (147)، والنسائي (56)، ثلاثتهم في الطهارة، عن أبي هريرة..
[3] - رواه الطبري في تاريخه (1/401).