أحمد الله تعالى حمد أهل الجنة، الذين نزع الله ما في صدورهم من غل، تجري من تحتهم الأنهار، وقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}[الأعراف:43].

وأزكى صلوات الله وتسليماته على معلم الناس بالخير، وهادي البشرية إلى الرشد، وهادي الخلق إلى الحق، وإلى صراط مستقيم {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}[الشورى:53].

ورضي الله عن آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين.

(أما بعد)

فهذا هو العدد العاشر من مجلة مركز بحوث السنة والسيرة، يظهر – كعادته- حافلا بالبحوث العلمية المتخصصة التي تخدم السنة والسيرة النبوية، عن طريق البحوث المعمقة، التي جهد فيها كاتبوها كل في مجاله.

ولا يخدم العلم ويرتقي إلا بهذا النوع من البحوث، وليس بمجرد الخطاب الجماهيري، الذي يحشد العواطف، ويلهب المشاعر، ويحرك العوام، وإن كان هذا قد يحتاج إليه بقدر في بعض الأوقات.

ولكن الذي تفتقر إليه دائما هو البحث العلمي الأصيل، الذي لا يكتفي بالنظر إلى السطوح، ولكنه يغوص في الأعماق، ليلتقط اللآلئ والجواهر، ويخرج بها بعد ذلك للناس لينتفعوا بها.

إن أمتنا أمة صاحبة رسالة حضارية متميزة بربانيتها الأصيلة، وإنسانيتها الجميلة، وأخلاقيتها النبيلة، وعالميتها الفاضلة، ووسطيتها المتكاملة، وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143].

وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].

فليست هذه الأمة نباتا بريا (أو شيطانيا حسب تعبير بعضهم) خرج وحده في البرية، دون أن يزرعه زارع، أو يغرسه غارس، بل هذه أمة (مجعولة) أو (مخرجة) جعلها الله أمة وسطا، وأخرجها للناس؛ لهداية الناس، ونفْع الناس، وإسعاد الناس.

ولكي تؤدي هذه الأمة رسالتها في الحياة، حدد الله لها مرجعيتها العليا، ولم يدعها لأهوائها ولا لأهواء غيرها، تعبث بها عبث الرياح بأوراق الشجر، فقيدها بشريعة ربانية، ثابتة الأصول مرنة الفروع، ثابتة الهداف، متطورة الوسائل، فقال تعالى لرسوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:18-19].

إنه القرآن الذي يجسد هذه البصائر والهدى والرحمة، وهو المرجع الأول لهذه الشريعة، والسنة النبوية هي المرجع الثاني لها، وهي التي تتولى بيان القرآن، تفصل مجملة، وتفسير مبهمة، وتقيد مطلقة، وتخصص عمومه، وتضع له الصور التطبيقية النموذجية، فهي التفسير النظري، والتطبيق العملي للقرآن الكريم، وقد أحسنت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، إذا سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت –وما أبلغ ما قالت-: كان خلقه القرآن[1]. رواه مسلم وغيره.

ولهذا كان علينا أن نجلي معالم السنة، ونذود عن حياضها، ونزيح غبار الشبهات والجهالات عن جوهرها، خدمة للإسلام، وللقرآن نفسه، كما قال تعالى لرسوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44].

وأن يكون لنا حظ من جهاد أولئك (الخلف العدول) الذين يحملون علم النبوة، وميراث الرسالة: "ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"[2].

جعلنا الله منهم، وممن قال الله تعالى فيهم: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:181].

ومن الطائفة المنصورة، التي استفاضت الأحاديث النبوية في الإخبار عنها، بأنها ستظل قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون.

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8].

رئيس تحرير المجلة

ومدير مركز بحوث السنة والسيرة

أ.د يوسف القرضاوي

(1422هـ - 2001م)

 

 

[1] - رواه مسلم في صلاة المسافرين (746)، وأحمد (24601).

[2] - سبق تخريجه صـ .