الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، الذي ختم الله به النبيين والمرسلين، وأرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(أما بعد)
فإن السنة النبوية هي المنهاج التفصيلي لحياة الفرد المسلم، والمجتمع المسلم وهي تمثل القرآن مفسرا، والإسلام مجسدا.
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، هو المبيِّن للقرآن، والمجسد للإسلام، بقوله وعمله، وسيرته كلها، في الخلوة والجلوة، والحضر والسفر، واليقظة والنوم، والحياة الخاصة والعامة، والعلاقة مع الله ومع الناس، ومع الأقارب والأباعد، والأولياء والأعداء، في السلم وفي الحرب، وفي العافية والبلاء.
ومن واجب المسلمين أن يعرفوا هذا المنهاج النبوي المفصل، بما فيه من خصائص الشمول والتكامل والتوازن والتيسير، وما يتجلى فيه من معاني الربانية الراسخة، والإنسانية الفارعة، والأخلاقية الأصيلة.
وهذا يوجب عليهم أن يعرفوا كيف يحسنون فهم هذه السنة الشريفة، وكيف يتعاملون معها فقها وسلوكا، كما تعامل معها خير أجيال هذه الأمة: الصحابة ومن اتبعهم بإحسان.
إن أزمة المسلمين الأولى في هذا العصر هي أزمة فكر، وهي في رأيي تسبق أزمة الضمير.
وأوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم السنة والتعامل معها، وخصوصا من بعض تيارات الصحوة الإسلامية، التي ترنو إليها الأبصار وتناط بها الآمال، وتشرئب إليها أعناق الأمة في المشارق والمغارب، فكثيرا ما أتى هؤلاء من جهة سوء فهمهم للسنة المطهرة.
التحذير من آفات ثلاث:
وقد روي عن الرسول صلى اله عليه وسلم ما يشير إلى ما يتعرض له علم النبوة، وميراث الرسالة على أيدي الغلاة، والمبطلين، والجهال.
وذلك فيما رواه ابن جرير، وتمام في فوائده، وابن عدي، وغيرهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"[1].
إنها معاول ثلاثة، كل واحد منها يمثل خطرا على الميراث النبوي.
تحريف أهل الغلو:
أ- فهناك (التحريف) الذي يأتي عن طريق الغلو والتنطع، والتنكب عن (الوسطية) التي تميز بها هذا الدين، وعن (السماحة) التي وصفت بها هذه الملة الحنيفية، وعن (اليسر) الذي اتسمت به التكاليف في هذه الشريعة.
إنه الغلو الذي هلك به من قبلنا من أهل الكتاب، ممن غلا في العقيدة، أو غلا في العبادة، أو غلا في السلوك.
وقد سجل القرآن عليهم ذلك حين قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77].
ولهذا روي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"[2].
وروى ابن مسعود عنه: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا[3].
انتحال أهل الباطل:
ب- وهناك (الانتحال) الذي يحاول به أهل الباطل أن يدخلوا على هذا المنهج النبوي ما ليس منه، وأن يلصقوا به من المحدثات والمبتدعات ما تأباه طبيعته، وترفضه عقيدته وشريعته، وتنفر منه أصوله وفروعه.
ولما عجزوا عن إضافة شيء إلى القرآن المحفوظ في الصدور، المسطور في المصاحف، المتلو بالألسنة، حسبوا أن طريقهم إلى الانتحال في السنة ممهد، وأن بإمكانهم أن يقولوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بينة.
ولكن جهابذة الأمة، وحفظة السنة، قعدوا لهم كل مرصد، وسدوا عليهم كل منافذ الانتحال.
فلم يقبلوا حديثا بغير سند، ولم يقبلوا سندا، دون أن يشرحوا رواته واحدا واحدا، حتى تعرف عينه، ويعرف حاله، من مولده إلى وفاته، ومن أي حلقة هو. ومن شيوخه؟ ومن رفاقه؟ ومن تلاميذه؟ وما مدى أمانته وتقواه، ومدى حفظه وضبطه، ومدى موافقته للثقات المشاهير أو انفراده بالغرائب.
ولهذا قالوا: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء![4]
طالب علم بلا إسناد كحاطب ليل!
ولم يقبلوا من الحديث إلا ما كان متصل السند من مبدئه إلى منتهاه، بالثقات من الرواة العدول الضابطين، من غير فجوة ظاهرة أو خفية، ومع ضرورة السلامة من كل شذوذ أو علة قادحة.
وهذا التدقيق في طلب الإسناد بشروطه وقيوده من خصائص الأمة الإسلامية، ومما سبقوا به أمم الحضارة المعاصرة، في وضع أسس المنهج العلمي التاريخي.
تأويل أهل الجهل:
ج- وهناك (سوء التأويل) الذي به تشوه حقيقة الإسلام، ويحرف فيه الكلم عن مواضعه، وتنتقص فيه أطراف الإسلام، فيخرج من أحكامه، وتعاليمه ما هو من صلبه، كما حاول أهل الباطل أن يدخلوا فيه ما ليس منه. أو يؤخروا ما حقه أن يقدم، أو يقدموا ما حقه أن يؤخر.
وهذا التأويل السيئ، والفهم الرديء، من شأن الجاهلين بهذا الدين، الذين لم يشربوا روحه، ولم ينفذوا ببصائرهم إلى حقائقه، فليس لهم من الرسوخ في العلم، ولا من التجرد للحق، ما يعصمهم من الزيغ والانحراف في الفهم، والإعراض عن المحكمات، وأتباع المتشابهات، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويلها تبعا للهوى المضل عن سبيل الله.
إنه (تأويل الجاهلين) وإن لبسوا لبوس العلماء، وتظاهروا بألقاب الحكماء.
وهذا ما يجب التنبه له، والتحذير منه، ووضع الضوابط الضرورية للوقاية من الوقوع فيه.
ومعظم الفرق الهالكة، والطوائف المنشقة عن الأمة، وعن عقيدتها، وشريعتها، والفئات الضالة عن سواء الصراط، إنما أهلكها سوء التأويل.
وللإمام ابن القيم هنا كلمة مضيئة ننقلها عنه من كتاب (الروح) قال فيها: ينبغي أن يفهم عن الرسول مراد من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه مالا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب وما لا يعلمه إلا الله بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده وسوء القصد من التابع فيا محنة الدين وأهله والله المستعان
وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر الطوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الإفهام والذي فهمه الصحابة ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه ولا يرفع هؤلاء به رأسا ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها فانا لو ذكرناها لزادت على عشرة ألوف حتى أنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله ومراده كما ينبغي في موضع واحد
وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول وأما من عكس الأمر بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئا فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى واحمد الذي عافاك مما ابتلاه به[5]. اهـ
ومن هنا كان واجبا على العاملين لخدمة الإسلام عموما، وخدمة السنة خصوصا، التنبه لتلك المعاول الثلاثة، التي تتمثل في تحريف الغالين أو غلو المحرفين، وفي انتحال المبطلين، أو باطل المنتحلين، وفي تأويل الجاهلين، أو جهل المؤولين، وتجلية الأصول والضوابط، التي تفهم في ضؤئها السنة المشرفة –التي تمثل المنهج الإسلامي في شموله ووسطيته وتيسيره- كما فهمها خير قرون هذه الأمة وأفضلها علما وعملا.
وفي هذا الإطار ظهر العدد الثالث من مجلة مركز بحوث السنة والسيرة، يحوي مجموعة طيبة من الدراسات العلمية الأصيلة، التي تتناول السنة المطهرة، أو السيرة العاطرة، من زوايا مختلفة؛ لتقدم للدارس والقارئ المسلم الزاد الذي يبحث عنه المتخصص المتمكن، ويستطيع أن يستفيد منه، وينهل من ورده المثقف المعاصر، لتصحيح المفاهيم، وترشيد الصحوة، وتسديد المسيرة، وكشف الزيف، ورد الأباطيل.. فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
رئيس تحرير المجلة
ومدير مركز بحوث السنة والسيرة
أ.د يوسف القرضاوي
(1408هـ - 1988م)