عبد السلام البسيوني

في تاريخنا المعاصر - قل خلال القرنين الفائتين – عرفنا شيوخًا غير تقليديين، ثوريين، متمردين، يحركون الشعوب لصالح الشعوب، ويغيرون المصائر لغير ما هو صائر، ويحولون الأمور عكس ما يريد سادتنا أولياء الأمور!

وينال هؤلاء الشيوخ الجبال في حياتهم كثيرًا من الأذى والعداء والتقبيح والتجريم، فإذا لاقَوا ربهم لقوا الكثير من الرضا والثناء والتقدير والتعظيم!

أتذكرون الموقد الحقيقي لثورة عرابي؛ الشيخ العظيم، الأديب الأدباتي، عبد الله النديم (1842- 1896) ؛ ذلك المناكف الذي أقلق القصر، وأرهق المحتل، فطورد وصودر، وضيق عليه وحوصر، لكن أثْرت به الحياة الأدبية والوطنية والجهادية بشكل ثوري وتنويري هائل!؟

أتذكرون المفكر السوري العظيم الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (1854 - 1902 م) ذلك الجليل الذي آذاه العنف الرسمي، والإرهاب الحكومي، فانتقد الملوك، وأكد أن (الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان؛ التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء؛ بلا خشية حساب ولا عقاب)! وذهب إلى أن (المستبدين من السياسيين يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي، والتشامخ الحسي، ويذللونهم بالقهر، والقوة، وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم؛ كأنما خلقوا من جملة الأنعام، نصيبهم من الحياة ما يقتضيه حفظ النوع فقط).

أتذكرون الشيخ جمال الدين الأفغاني الثائر الهادر، الذي كان (يوزع السعوط بيمينه، والثورة بيساره) حتى ضج منه الإنجليز وأعوانهم، فنفوه وطاردوه؟

أتذكرون الشيخ المجاهد العظيم عمر المختار (20/8/ 1861 – 16/9/ 1931) الذي قاتل إيطاليا المستعلية المتجبرة، وكان لاعتقاله صدىً كبير هنالك، حتى إن عدوه جراسياني لم يصدّق نبأ اعتقاله، فأصيب بحالة هستيرية، وأخذ يشير بيديه ويقول: صحيح قبضوا على عمر المختار؟ ثم يقول شاكًّا: لا، لا أعتقد! ولم يسترح بال عدو الله والإنسانية، فقرر إلغاء إجازته، وأقلته طائرة خاصة ليهبط في بنغازي، ويطلب إحضار عمر المختار إلي مكتبه ليتأكد أنه اعتقل فعلاً.

وحين صدر الحكم بإعدام المجاهد الكبير شنقاً قال في شموخ: "إن الحكم إلا لله … لا حكمكم المزيف.. إنا لله وإنا إليه راجعون" وشنقوا جسده فخلد الله اسمه وأثره؟!

أتذكر ذلك قارئي الكريم؟ الحمد لله ، فهاك سؤالي إذن؟! ألا يجب أن يصنف الشيخ العظيم يوسف بن عبد الله القرضاوي ضمن هذه النوعية الفذة من الرجال، التي غيرت الاتجاهات، وصنعت الأفكار، وجددت الرؤى!؟ ألا ينبغي أن يكون مع عمر مكرم والنديم والأفغاني والكواكبي ومختار!؟

لن أتحدث عن بداياته الثورية، وقصائدة النارية، وخطبه المشتعلة – في شبابه – لكن أدعوك لتتأمل مسيرته في السنين العشرين الأخيرة عامة، والسنين الأربع الأخيرة خاصة، وارصد بنفسك مواقفه، وخطبه، وأفكاره، وأثره؛ ترَ كمْ أنت محظوظ لتعاصر هذا الجبل الذي فَتحت عليه ليبيا وسوريا واليمن ومصر وتونس نار إعلامها السلطوي الكنود، وتمنوا - لو بوسعهم - أن يخنقوه ألف مرة، وهو الذي منع رسميًّا من دخول أميركا وبريطانيا وعدد من الدول (العربية!) لكونه شيخًا غير مرغوب فيه!

ألا يجب تصنيفه كزعيم وطني، وقائد شعبي، وثائر زلزل عروش الظالمين، ونجحت كلماته - مع دماء المجاهدين - في انتزاعهم من كراسيهم وملكهم العضود.

ألم تر إلى دوره في ثورة يناير الغراء؟ ألم تر إلى كلامه قبلها وبعدها عن الطواغيت البلهاء في تونس، وليبيا، وسوريا واليمن ومصر، وحيثما كان الطغيان والطغاة!؟

ألم تر إلى رجوع الناس - قيادات وعوام - إليه، يستفيئون بظله، ويستأنسون برأيه، ويصدرون عن فكره!؟ ألم ترهم يستعيدون كلامه وخطبه أثناء الثورة؟

ألم تر إلى الحنق العظيم الذي يأكل قلوب أنظمة الاستبداد، ويجعلهم يتخبطون في جهالاتهم، ويرمونه بالعمالة والخيانة والمداجاة والتآمر مع المشرق والمغرب ضد حكمهم (الراشدي العادل الأمثل)!؟

ألم ترهم يستعينون بمفتين متأكلين، وخطباء مساجد جاهلين أو مجبرين، وزمارين، وطبالين، ودجالين، وشتامين، لعلهم يغطون الشمس، أو يحجبون الحق!؟

ألم تر إلى التلفزيون الليبي الوطني العظيم الذي أذاع قبل نحو عشرة أيام نبأ في غاية الدقة والحرفية والأمانة – بلغةٍ كاذبة خاطئة – فحواه أن العلامة القرضاوي مصاب بجلطة وشلل، وأنه دخل غيبوبة، إذا أفاق منها فسيظل للأبد مشلولاً!؟

ألم تر إلى التلفزيون السوري العظيم الذي اتهمه بالتلون والتلاعب والتقلب وسوء النية، وبأنه المتآمر المصلحجي شيخ العولمة وعبدها المطيع! وأنه يزعم أن ثورة سورية سلمية سلمية بينما الشعب السوري المشاغب (المجرم) الذي لا يشكر نعمة البعث عليه، يحمل على أكتافه دبابات وطائرات وراجمات صواريخ ليهدم سوريا الباسلة، وفشار وماهر الأسد بريئان، وعصابات البعث هي أمثلة الطهر والوطنية والعدالة والإنصاف!؟

لكم ضحكت من بلاهة أعوان القذافي وحمقهم، ومن إعلام الأسد التافه، ورجاله (الأشراف) وقلت: عافى الله الشيخ، وأبقاه شجى في حلوق الفراعين، وكابوسًا يحرمهم المنام، ومنارة حق ترشد الشعوب إلى مرافئ الأمان..

لكم ضحكت من بلاهة الإعلام البعثي الهزيل التافه، وهو يسبه، ويفتري عليه، ويقول فيه ما قال مالك في الخمر، وما ادعاه فرعون عليه اللعنة على موسى عليه السلام.

ألم يقل ذلك الأحمق عن موسى وأخيه (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم المثلي!؟) ألم يقل رجال إعلام فرعون (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض....؟) هذا بالضبط ما قاله مفتى ليبيا، والحليوة حسون بتاع سوريا، كما قاله تلفزيونا الدولتين.. ولن أعلق على السفاهات والطرائف المضحكة التي يطلقها هؤلاء الحمقى، ظانين أنهم يخدمون العقير وفشار، وهم في الواقع والله يسيؤون لهم، و(يعكون) ويزيدون الوحل بلة!

يا سادتي هلك فرعون وهامان وقارون، وراح مبارك وبن علي، وسيزول العقيم القذافي وفشار، وسالح، وهذا القراد البشري الذي يعيش على مص دماء الشعوب.. صدقوني سيزولون، وعسى أن يكون قريبًا..

وليس هذا محور كلامي على كل حال، إنما أريد أن أتأمل المفارقة العجيبة:

عالم معمم مسن، ليس معه شيء، تنبحه تلفزيونات أنظمه عاتية، وإذاعاتها، وصحافتها، وشيوخها المنافقون، ويسخر لذلك المال والجهد والإمكانات.. ثم تأتي مجرد كلمة من هذا الكبير لتلهب القلوب، وتوقظ المشاعر، وتحرك الشوارع، ينتظرها الناس، ثم يتجاوبون معها، وتصير وقودًا محركًا يجعلهم يستهينون بالموت، ويستهزئون بالفراعين..

مفارقة أخرى فارقة، جديرة بالتأمل: يوسف القرضاوي ممنوع من دخول أميركا، بوصفه متطرفًا وراديكاليًّا، وجناب مفتينا الهمام يستعديها في الواشنطن بوست على بلده... ومفني ليبيا الذي ظننته القذافي يخطب، يقول إن القرضاوي طابور خامس، وكذاب، ومنافق، وعميل لأمريكا! بينما يرن هاتفه بأغنية للشيخة نانسي عجرم!

شيخنا يحرض على الثورة، والخروج للميدان، وجناب مفتينا الهمام يرخص في ترك الجمعة؛ حتى لا يجتمع الناس في التحرير راغبين في التحرير! والفوطي (صاحبه والصائد بمثل شباكه) يقول عن الثائرين: ينتعلون المساجد لمآربهم، ولا يعرفون شيئا اسمه الصلاة، وجباههم لا تعرف السجود، وينقادون لأوامر آتية من الخارج، ويحتمل أن تحركها أصابع صهيونية!

هذا بالتنوير يحرر العقول، وهؤلاء بالخرافات والأكاذيب يخدرون العقول!

يااااااااااااااه.. ولسه.. بينه وبينكم التاريخ، والجنائز، ولقاء الملك العدل!

قال نـزار قبـاني في غيلان السلطة:

كلما فكرت أن أعتزل السلطة ينهاني ضميري/ من ترى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين؟ من سيشفي بعديَ الأعرج والأبرص والأعمى/ ومن يحيي عظام الميتين؟ من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر؟/ من ترى يرسل للناس المطر؟/ من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟/ من ترى يصلبهم فوق الشجر؟ من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟ /ويموتوا كالبقر؟/ كلما فكرت أن أتركهم فاضت دموعي كغمـامة!

وتوكلت على اللهِ وقررت أن أركب الشعبَ.. من الآن إلى يوم القيامة.

.........

- عن صحيفة المصريون