الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيِّدنا محمد رسول الله، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد درج الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين منذ أن تأسَّس على أن يعايش هموم المسلمين في كلِّ مكان، وأن يتبنَّى آمالهم، ويألم لآلامهم، وكان دائماً يناصح الحكام بالكلمة الطيِّبة والموعظة الحسنة . كل ذلك كان بمقتضى الأمانة التي حمَّلهم الله إيَّاها بقوله سبحانه: "كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ" ( آل عمران: ٧٩). وقوله كذلك: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" (الأحزاب: ٣٩). وهي كذلك بمقتضى المهمة التي شرفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (العلماء ورثة الأنبياء).

وهكذا... فالاتحاد مارس هذه المهمَّة المعلنة في ميثاقه منذ أن تأسَّس... وبحمد الله فإن مواقف الاتحاد وبياناته الشجاعة كانت محل إجماع العلماء في كل مكان إلا من شذ عنهم ، وقد أحيت هذه المواقف الرائدة آمال الأمة في أن يسترد العلماء دورهم القيادي الإصلاحي المنوط بهم بقوله: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا" ( السجدة: ٢٤). نعم... العلماء العاملون، والحكام الراشدون هم ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم في هذه الأمة، إن صلحوا صلحت بهم الأمة، وإن فسدوا فسدت بهم كذلك:(صنفان إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء).

لقد قال الاتحاد كلمة الحق مؤيِّداً ثورات الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن، وكان لبيانات الاتحاد وخطب الشيخ القرضاوي وقع الصاعقة على الأنظمة الطاغوتية المستبدة، تزلزلت معها عروش الطواغيت في تلك البلاد.

السادة العلماء المجتمعون في وزارة الأوقاف السورية :لِمَ أيَّدتم بيانات الاتحاد وخطب الشيخ القرضاوي حين انتصر للحق والعدل في مصر وتونس واليمن وليبيا؟ لكنه حينما ناشد الرئيس السوري ناصحاً إيَّاه ومذكراً له بتلبية مطالب الشعب السوري العادلة ، وتحقيق آماله وطموحاته في الحرية والكرامة ، وإنهاء حالة الطوارئ ، ورفع المظالم ، وإلغاء القوانين الجائرة... أقمتم على الشيخ النكير! وسلَّطتم عليه قالة السوء! ثم سلقه الإعلام السوري بألسنة حِداد فاجرة؟! ماذا فعل الشيخ الرمز أمل الأمة والشعوب الظامئة للحرية حتى يناله هذا الظلم وهذا العدوان؟ !!

أليس فرضاً عليه وعليكم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر ؟ أليس فرضاً عليه وعليكم أن تجهروا بكلمة الحق؟ أليس فرضاً عليه وعليكم أن تناصحوا الظالم وتنصروا المظلوم؟. وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ فيها للضعيف بحق) فكيف إذا كان الشعب السوري كله يعيش حالة الظلم والقهر، أسيراً تحت حكم الظالمين المستبدين منذ نصف قرن؟!

ومَن أولى من العلماء بقيادة شعوبهم نحو الحرية والعزة والكرامة، و مواجهة الظلمة والطواغيت، الذين أذلُّوا البلاد والعباد، ونهبوا الأموال والخيرات، وأشاعوا الجريمة والفساد، وسلطوا الرعاع على العلماء والدعاة، وفتحوا للأحرار السجون وأقبية المخابرات، وحكموا شعوبهم بقوانين الجوار والظلم والقهر؟؟!.

ألم يعترف رئيسكم...ثم اعترفتم من بعده: أن مطالب الشعب محقَّة وعادلة؟! ألم يعترف المسؤولون ـ ومن بعد أن قال الرئيس ـ أنه قد حدث تقصير، وارتُكبت مظالم، وظهر فساد في البر والبحر... وأن من حق الشعب السوري أن يتظاهر، ويطالب بحقوقه المشروعة؟!

ألم يخطب كثير من العلماء الأحرار في بلدنا الحبيب يطالبون بما طالبت به الجماهير الثائرة وكان نصيبهم العزل والتسريح؟!

ألم يُصدِر علماء سورية الأبرار وفي مختلف المحافظات بيانات معلَنة ومؤيِّدة لمطالب شعبنا العادلة التي تهتف بها تجمُّعات الأحرار في مختلف المدن السورية وضواحيها وقراها؟!

ثم ها هو الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وهو رئيس أكبر هيئة علمية إسلامية، يعلن تأييده للمطالب السلمية السورية في الحرية والعدالة والعيش الكريم.

أكل هؤلاء مرتبطون بمخططات خارجية، ويصدرون عن خلفيات حزبية، ويستهدفون استقرار سورية (بلد الممانعة والمقاومة)؟!.

وأخيراً فإذا كان علماء الأمة في داخل سورية وخارجها مجمعين على حقِّ الشعب السوري في الحرية والعزَّة والكرامة، وأنه يستحق أن يعيش حراً كريماً، فلماذا استكثرتم على الاتحاد وعلى الشيخ الجليل أن يُذكِّر الرئيس بتحقيق هذه المطالب، والسرعة في إنجازها، فقد طال الأمد وصبر الشعب طويلا؟! ألأنه غير سوري؟ أهذا هو فقهكم؟! ومتى جاز لكم أن تعتبروا الحدود التي اصطنعها الاستعمار حاجزة ومانعة للعلماء أن يقول كلمتهم فيما يهم أمر الأمة (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).

خمسون عاماً من الظلم والقهر، وسريان حالة الطوارئ، وقوانين الجور، وتعسف المحاكم الاستثنائية والعسكرية، وقرابة عشرين جهازاً أمنياً، وآلاف السجون وأقبية المخابرات المنتشرة كالسرطان في الجسم السوري، وفي كل جزء من وطننا الحبيب!!

ألم يأنِ لهذا الشعب أن يظفر بحقوقه المشروعة، وأن يختار بحرية حكامه ومسؤوليه ، وأن ترفع وصاية الحزب والأمن والطائفية عنه؟.

واسمحوا لنا أن نوجِّه سؤالنا لمن صاغ هذا البيان الآثم المنسوب (لكبار علماء سورية ) ـ وأكثرهم منه براء ـ إذ أنه من الواضح ـ أن من صاغ هذا البيان هو وزير السلطة (الأوقاف) وهو الذي قرأه في هذا الجمع الدعائي الإعلامي الرسمي نسأل: أليس هذا البيان صورة طبق الأصل لما يردده الإعلام الرسمي السوري الموسوم عالمياً بالكذب فيقول: إن البيان الذي أصدره الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بخصوص الأوضاع في سورية لم يفاجئ علماء سورية، كونه صدر من خلفيات حزبية مرتبِطة بمخططات واضحة المعالم والأبعاد والأهداف!! والذي يستهدف النيل من أمْن سورية واستقرارها... ثم اجترأ الوزير على إعطاء تصريح لا يليق بأهل العلم والدعوة والمسؤولية ولكنه يحلو ـ في نظر الوزير ـ للنظام الغاشم، والطغمة الحاكمة، فيقول: بيان الاتحاد صدر عن خلفية حزبية عصابة!!

أين شرف الكلمة يا (معالي الوزير) وأنت تنتسب لأهل العلم (والعلم رحم بين أهله)؟! كيف سمحتَ لنفسك أن تشتم أكبر تجمع لعلماء المسلمين في العالم وتسميهم عصابة؟ فُضَّ فوك.

وإذا كان كلام هذا الوزير متوقعاً بحكم مهمته كوزير للسلطة، وخادم للطاغوت، فالعَتْب كل العَتْب على شيخ طاعن في السن قال منذ الأيام الأولى لانتفاضة الشعب المباركة في درعا مردداً أكاذيب الإعلام السوري: بأن فتيان درعا الثائرين الشجعان ينفذون مخططات خارجية، وأنهم تلقوا أمولاً وأسلحة!! نقول لهذا الشيخ: أين التبيُّن والتثبُّت ؟

أين أنت من قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" ( الحجرات: ٦) وكل الذين وضعوا بين يديك هذه المعلومات فسقة كذابون.

ومن قبل ذلك اتهم أصحاب البيان الشيخ الجليل المجاهد القرضاوي بأنه يثير الفتنة!! وأسالكم مرة أخرى: هل ما يقوله الشيخ آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر هو الفتنة ؟! أم أن الفتنة تتمثل في القعود عن هذا الواجب، وقد قال سبحانه: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" ( الأنفال: ٢٥).

وهل ما يدعو له الشيخ من الطاعة لله وتحكيم شرعه هو الفتنة؟ أم هم الذين يطيعون الحكام فيما لم يأمر به الله ؟

" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ( النور: ٦٣).

وهل دعوة الشيخ للحكام أن يتقوا الله في شعوبهم ويحكموهم بالعدل والمساواة هو الفتنة؟! أم أن دعاة الفتنة هم الساكتون عن الحق، الراضون بحكم الباطل :( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابه)

أليس سكوتكم هذا كان سبباً لفتنة الناس في دينهم وقد أمركم الله أن تدعوه: "فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (يونس: ٨٥ – ٨٦). ماذا يقول الشباب حين يرون علماءهم يبررون للظالم ظلمه وللطاغية تجبُّره وقتله!!.

ألم يكن جديراً بكم أيها السادة أن ترفعوا أصواتكم عالياً وتقولوا... لا ... لبناء الأصنام والتماثيل في كل مدينة، وكل قرية، وكل ساحة للهالك الطاغية حافظ أسد وولده القاتل الديكتاتور حتى لا يحدث ما رأيتم بأمِّ أعينكم وسمعتم بآذانكم كيف يسجد بعضهم لصورة بشار؟ وكيف يطلقون عليه وعلى أبيه من قبل أوصاف الذات الإلهيَّة؟ بل إن بعضهم الآخر شتم الذات الإلهية بأقبح الأوصاف وفي حماية الدولة.

أليس من حقِّ هذا الشعب الذي يُراد له أن يكون عبداً أن يكسر الأصنام ويزيل التماثيل؟

ماذا لو تحوَّل الشباب عن دينهم ـ لا سمح الله ـ وأداروا ظهورهم للعلماء؟ من المسؤول عن فتنتهم أيها المتصدِّرون في شاشة التلفاز. أنسيتم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم...)

وأعتذر (لسماحته) أن أسأله: تُرى أكان الشعب يحلم أن تُلغَى هذه القوانين لولا الثمن الغالي الذي دفعه ؟!.

ثم هل إنكار الشيخ القرضاوي على الحكام أن يمارسوا الظلم والقهر هو الفتنة؟ أم الفتَّانون هم أولئك الذين يمارسون التعذيب الوحشي، والاضطهاد الذي لا يرحم في أقبية السجون والمخابرات، والتمثيل بالجثث، وقلع الأظافر، وإطفاء السجائر في الأجساد، وسحل الجرحى في الشوارع..ألم يأمركم الله أن تنكروا على هؤلاء ظلمهم وتقاوموهم وقد قال سبحانه : "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ"( البقرة: ١٩٣) وقال: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ" ( النساء: ٧٥).

نربأ بكم أيها السادة أن تحرفوا الكلم عن مواضعه وأن تسمُّوا الأشياء بغير أسمائها، وأن تقولواعلى الله غير الحق، وأن تشوهوا قيم الإسلام وأحكامه، وأجزم أن كثيراً منكم أيها السادة يتبرأ مما كُتِب في هذا البيان.

وللذكرى أقول: إن حزب البعث الذي جعلوه قائداً للأمة وللمجتمع، ووصياً عليه قد اغتال شعاراته الأساسية في الوحدة والحرية والاشتراكية. مزَّق الأمة والشعب بجميع طبقاته ،ثم هو ينادي: وحدة!!

وحكم الشعب بالحديد والنار وكمَّم الأفواه، وفتح السجون، وشرع القوانين الظالمة، وأقام المحاكم الاستثنائية، ثم هوينادي: بالحرية!!

ووضع ثروات الأمة في أيدي قلة انتهازية مفسدة تاجرت بأقوات الشعب وضروراته، ونزلت بالكثرة الكاثرة من أبناء الشعب إلى تحت خط الفقر، ثم هو ينادي بالاشتراكية!!

هذا شأن حزب البعث العلماني أو هذه آثار حكمه! فهل تسمحون لأنفسكم أيها السادة العلماء وهل ترضون لهذا الشعب أن يعيش أسيراً في حماية هذا الحزب؟!.

ثم نقول للسادة العلماء المنسوب إليهم البيان: لقد طلبتم من الاتحاد العالمي أن يراعي في مواقفه وبياناته تطبيق القاعدة الفقهية:( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وهذا حق... لكن ألم يكن الأوْلى بكم أنتم أن تطبِّقوا هذه القاعدة، خاصَّة وأنكم تعرفون حالة القهر والمعاناة التي يعيشها شعبكم في سورية منذ خمسين سنة في ظلِّ قانون الطوارئ والأحكام العرفيَّة، والمحاكم الاستثنائيَّة والعسكريَّة، والفساد الذي عمَّ وطمّ، والظلم الذي انتشر في كلِّ زاوية من الوطن الحبيب؟!.

نعم...ألم يكن جديراً بكم أن تنصحوا الرئيس (الموثوق عندكم جداً!) من أجل إنهاء حالة الاحتقان والظلم البادية في وجه أكثر السوريين، وحتى يوقف الانفجار الذي حدث، وغضب الشعب الذي ثار، والمظاهرات التي تفجَّرت في أكثر من مكان، والدماء التي سالت، والضحايا الذين سقطوا على أيدي العصابات المسلحة من الأمن السوري والميلشيات البعثية؟

وختاماً نقول لشيخكم الكبير: صدقت... حين قلت: إنكم لم تحضروا لقاءات الاتحاد وليس لكم ممثلون فيه!! لكن السؤال: لِم لم تحضروا وقد دُعيتم؟ الجواب: أنكم لا تجرؤون!

ثم لماذا أيها الشيخ حصرت العلماء فيك وفي من معك؟ وقد حضر اللقاء الأخير للاتحاد في استانبول عشرات العلماء السوريين من الداخل والخارج وعلى رأسهم رئيس رابطة العلماء السوريين ونائبه والأمين العام، وأعضاء الأمانة العامة، يمثلون أعضاء الرابطة وهم بالمئات ينتشرون في كلِّ مكان.

غفر الله لك أيها الشيخ وغفر لمن معك... وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

المهاجر في سبيل الله والمبعَد قسراً عن بلده من 32 سنة

محمد فاروق البطل