أحمد حنى *

بدأ القرضاوي مسيرته بمسرحية "عالم وطاغية"، التي كتبها وهو في مرحلة الدراسة الثانوية. الطاغية في المسرحية هو الحجاج والعالم الشهيد هو عبد الله بن جبير. وهي مسرحية لا تزال تمثّل في المدارس الإسلامية.

ولا يزال هو يتمثّل بالعالم ويقتدي به، وكان من حسن حظّه وحسن حظّ قطر، أن يلتقيا في تلك المساحة من الحرّية، حتى غدت قطر عاصمة العرب. التلفزيون السوري يقوم بحملة تشويه منظّمة ضد القرضاوي، فطوراً هو متآمر مع الصهيونية العالمية ويقبض عشرة آلاف دولار عن كلّ خطبة! وأحياناً هو غوغائي فتّان ساهم في محاولة قتل عبد الناصر وحاول سرقة ثورة مصر! ثم دخل البوطي على الخطّ ليساهم في حرب نقائض دينية. الفقيه الدرويش ضدّ الفقيه الثوري. فقيه السلطان ضدّ فقيه الإيمان.

التلفزيون السوري العلماني شنّ حملة علمانية متطرّفة ضد المنقبات، وعبارات التكبير والتوكّل على الله وغيرها على السيارات الخاصّة؛ شنّها تقرّباً من إله يدعى "المنهج العلماني"، وكان رئيس سورية العلماني في حواره الأخير مع "وول ستريت جورنال" قد أعلن أن التحدي الذي يواجه سورية هو الحفاظ على علمانية الدولة التي تعرف بدلالة النقاب خصوصاً والدين عموماً! ولم يكن الرئيس الشفاف الذي لم يحاور أحداً في حياته حواراً على الهواء مباشرة، فالحوارات كلّها مسجّلة، وغالباً هي مع أجانب؟ فالترجمة إلى العربية تتيح هامشاً من المناورة للالتفاف على المعاني. يوصف الرئيس بأنه صاحب "فكر استراتيجي"، وفي الحوار اعتقد أنّ الثورة بعيدة عن بلاده بسبب شفافيته- التي تتجلّى في الحوار مع صحيفة أمريكية، وليس صحيفة عربية، وكان الأولى أن يحاور شعبه أو حتى أبناء حزبه العلماني، أو يحاور تلفزيوناً عربياً على الهواء ولو مسجلاً، لكن هيهات؟

لعل الرئيس لا يعلم بأن رجال سورية قد أصبحوا منقّبين أكثر من النساء، فهم يخفون ما في صدورهم عن أقرب المقرّبين خوفاً من "شبّيحته"، وكان يمكن للثورة على التديّن أن تستمر، وأن تنتقل من وزارة التربية إلى وزارات أخرى كما وعد وزير التربية، لولا أن منّ الله عليهم بجند ذوي بأس شديد، إنهم أطفال درعا، الذين حطّموا سور الصمت العظيم. أمّا البوطي فالحق أنه رجل تقيّ وزاهد وطيّب و... ساذج في السياسة، بدليل أنّه ذكر مرّة في مذكّراته في معرض مدح الرئيس المرحوم حافظ الأسد أنّه طلب منه كتاباً للأدعية يوضع في الجيب! فتأمّل أخي القارئ ذكاء البوطي وحنكته وطيبته! البوطي حظي برعاية وتكريم من المخابرات السورية التي تدوس على رقاب السوريين، وربما خاف من الفتنة وعاتب القرضاوي والناس لأنّهم لا يوصلون صوتهم إلى الرئيس. والظاهر أنه ليس له طلب سوى إعادة المنقّبات، ومنع مسلسل الداعية المجاهد، فارس العلمانية السورية نجدت أنزور الذي قد يكون من أحد شيوخ القناة الدينية التي وعده بها الرئيس. نذكّر أنّ قرار رفع حالة الطوارئ اتّخذ منذ خمس سنوات!

لم يُفتِ البوطي في عبادة الأصنام في سورية، في حق الحرّية، التي تتمتع بها القطط والكلاب في الشوارع أكثر من المواطن السوري، ولا في عشرات الآلاف من الشهداء، والضحايا، والمهجّرين، ولا عشرات الآلاف الذين يذلّون يومياً في فروع الأمن، أو في طوابير الأفران أو أمام مكاتب الوزراء والمديرين الذي ألّهوا أنفسهم. فالقاعدة التي اتّبعها النظام بعد فشل الحملة الدولية على سورية: استعبد الشعب وجوّعه يتبعك. يبدو أنّ البوطي هو الوحيد في سورية الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهو الوحيد الذي تتاح له فرصة ذهبية للقاء الرئيس الذي تملأ صوره التي يظهر فيها عملاقاً والشعب أقزاماً في كلّ مكان في سورية.

عرفت سوريين يكادون يفتنون في دينهم بسبب آراء البوطي الدينية، ودروشته وتصوّفه. الظاهر أنّه يعيش عقدة ذنب من فتاوى ابن تيمية ويريد التعويض عنها من كرامة السوريين ودمهم، فها هو يبخل على الضحايا بلقب الشهداء. مهما يكن فإنّ الرجال يعرفون بالحقّ ولا يعرف الحقّ بالرجال، والحمد لله أنّ في سورية علماء تجرؤوا على كلمة الحق وأنّ البوطي ليس بابا الإسلام في سورية.

نتذكر الحديث الشريف الذي يقول: "مَنِ التَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ".

.......

- كاتب سوري، نقلا عن القدس العربي.