ياسر الزعاترة
مؤخرا، شن التلفزيون السوري هجوما مركزا على العلامة الشيخ يوسف القرضاوي بسبب تعرضه لما يجري في سوريا، واعتبره داعية فتنة، وراح يجرّح في الرجل بوسائل أكثرها يميل إلى الكذب والتدليس، سواء ما تعلق منها بتعرضه للشأن السوري، أو سواه من القضايا، وفي مقدمتها الثورة المصرية.
مثل هذا الهجوم المركز على شخصية عامة بوزن القرضاوي لها حضورها الكبير في وعي الأمة كان يعبر تعبيرا صريحا عن ضيق النظام بموقفه حيال ما يجري في سوريا، مع أنه موقف كان مختلفا كل الاختلاف عن الموقف مما يجري في ليبيا مثلا، حيث أفتى الشيخ بجواز قتل القذافي من أجل حقن دماء الليبيين، فضلا عن الموقف مما جرى في تونس ومصر وحتى اليمن من حيث تأييد التغيير الجذري.
الشيخ في الحالة السورية كان مطالبا بالإصلاح، وأشاد بشخصية بشار الأسد، لكنه قال إنه لا يزال أسير القيادة القديمة، وأسير طائفته، ويبدو أن القوم كانوا يريدون من الشيخ أن يدين خروج الناس إلى الشوارع، ويسكت على إطلاق الرصاص عليهم كي لا يصنف عند النظام داعية فتنة!!.
تقرير التلفزيون السوري استعاد كلاما سابقا للشيخ القرضاوي يشيد فيه بالرئيس السوري، وهو موقف لم يغيره الشيخ الذي لم ينكر انتماء سوريا لمحور المقاومة والممانعة، لكن ذلك شيء والإصلاح الداخلي شيء آخر، لأن من تظاهروا في المدن السورية لم يكونوا ضد مواقف سوريا الممانعة والمقاومة، بل ضد الظلم والفساد، أما تصنيفهم بأنهم فئات مندسة أو تابعون لجهات خارجية فلم يكن ليمر على عقل طفل صغير، فضلا عن أن يصدقه عالم كبير بوزن الشيخ.
لم يكن هذا الفصل السوري من الهجوم على الشيخ، سوى واحد من فصول كثيرة من الهجمات عليه تابعناها منذ انفجار الثورة في تونس، حيث بدأ الهجوم عليه من النظام التونسي، ومن بعده المصري الذي تخصص إعلامه في تقديم وصلات الهجاء طوال أيام الثورة التي ناصرها الشيخ بكل ما أوتي من قوة، وعندما انتصرت تخصص آخرون في هجائه، لاسيما حين خطب جمعة النصر في ميدان التحرير، مع أن الرجل قال إنه لا ينتمي لأي حزب، وإنه ليست لديه أي طموحات سياسية، واستخدموا في سياق التشويش قصة مختلقة حول منع حراسه (لا حراسة له) للناشط وائل غنيم من اعتلاء المنصة.
بعد الثورة المصرية جاء دور ليبيا، ورأينا كيف تعرض الشيخ للهجاء من الإعلام الليبي الرسمي، وقد رأينا في اليوتيوب شيخا ليبياً من جماعة السلطة يكيل له الهجاء، ثم يرن هاتفه النقال على نغمة أغنية لنانسي عجرم!!.
وفي البحرين تعرض الشيخ للهجاء من طرف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وعلى نحو فيه قدر من الاستفزاز، حيث قال بالنص في خطاب احتفالي بالثورات العربية "أنا أستغرب كيف يدعو البعض ويقف ويقول: يجب على أهل مصر أن ينزلوا إلى الشارع، ثم في ليبيا يقف ويقول اقتلوا القذافي، ولكن عندما تصل النوبة للبحرين -حيث لا يريد أحد في المعارضة أن يقتل أحدا- ينكسر القلم، ويجفّ الحبر، وتخرس الألسنة، ويصبح الكيل بمكيالين".
هجوم نصر الله جاء بسبب قول الشيخ إن ما يجري في البحرين "ثورة طائفية"، وإن الأفضل هو الاستجابة لدعوة الحوار التي أطلقها ولي العهد البحريني، مشيرا إلى مخاوف السنّة مما يجري (ماذا عن موقف حزب الله مما يجري في سوريا؟!).
لا ننسى هنا ذلك الهجوم اليومي الذي يتعرض له الشيخ من قبل دعاة يحسبون أنفسهم على الخط السلفي (أرجو الانتباه إلى أننا نشير إلى لون سلفي محدد وليس إلى كل التيار)، وباتوا يصنفونه في إطار الخوارج، أو على الأقل في دعاة الفتنة، ويذهب بعضهم بعيدا في سب الرجل وشتمه، مع الكثير من التنظير للموقف الذي يتبنونه ممثلا في رفض الخروج على الحكام، مع رفض المظاهرات والاعتصامات، وعموم أشكال الإنكار العلني على ولاة الأمر، حتى لو جلدوا الظهور وسلبوا الأموال، ما داموا يؤذنون للصلاة، ولا حاجة هنا لمناقشة مقولات هذا التيار التي سبق أن ناقشناها في مقال نشرناه في هذا الموقع قبل أسابيع، وكان بعنوان "التيار السلفي التقليدي في معارك الأمة ودينها".
تشير هذه الهجمات -التي تعرض ويتعرض لها الشيخ- إلى حقل الألغام الذي يسير فيه، فهو يقع بين مطرقة الشعوب وقواها السياسية وبين سندان الأنظمة، كما أن أجواء الشحن المذهبي التي تعيشها المنطقة منذ غزو العراق لا تمنحه فرصة التحرر من الضغوط التي تأتيه من هنا وهناك، لاسيما أنه يعيش في الخليج الذي يتميز سنّته بحساسية عالية حيال الشيعة، ولعل ذلك هو ما يفسر موقفه من قضية إيران ونشر التشيّع التي اختلف بسببها مع عدد من مفكري الأمة، ممن رأوا أن القضية لم تكن تستحق التصعيد الذي يمكن أن يصب في صالح المساعي الأميركية الرامية إلى شيطنة إيران تمهيدا لضربها، أقله في ذلك الحين قبل عام ونيف، مع أن إيران كانت -ولا تزال- جزءا من المشكلة بسبب مواقفها البائسة في العراق، وميلها في كثير من الأحيان إلى سلوك طائفي يستفز الأمة (لا يشمل ذلك فلسطين، حتى نكون منصفين)، ولا شك أن مسألة التبشير الشيعي -على ضآلة تأثيرها- تبدو الأكثر استفزازا بالنسبة للكثيرين.
رغم ذلك كله، يمكن القول إن الشيخ القرضاوي قد اختار الحق كما يراه، والحق في هذه المنطقة هو مع الشعوب الثائرة في جميع الأحيان، على تفاوت في تقدير طبيعة الحراك المفضل، وما إن كان بروحية التغيير الجذري أم بروحية الإصلاح.
وقد كان الشيخ صريحا وواضحا في هذا الشأن، حين قال "هذا زمن التغيير، ومن لا يتغير يُداس بالأقدام". وهنا يبدو من الصعب وضع موقف الشيخ من الحراك البحريني واختلاف مواقفه بين نظام وآخر خارج سياق تقدير الموقف من زاوية المصلحة، مصلحة الأمة أولا، والشعب البلد المعني ثانيا، بصرف النظر عن اتفاق البعض أو اختلافه معه.
الشيخ القرضاوي يعبر عن صوت الجماهير، ومن يبحثون في سجله عن أسباب للهجاء (حتى أمير قطر لم يسلم من نقده عندما صافح مسؤولا إسرائيليا قبل سنوات) إنما يفعلون ذلك لأسباب لا صلة لها بالانحياز للحق، بقدر صلتها بالمناكفة وهجاء المخالف.
أما الحَكم في نزاع من هذا النوع فهو جماهير الأمة التي تحب الشيخ وتنحاز إليه رغم حدة الهجوم وتنوع المهاجمين، وبالطبع لأنها تراه الأقرب إلى ضميرها كما كان دوما، بدليل مواقفه المشهودة في القضايا الكبرى، خاصة فلسطين والعراق.
ولنتذكر هنا حقيقة أن الضمير الجمعي للأمة، وليس لشعب الدولة القـُطرية، كان صائبا على الدوام، وذلك مصداقا لقول الله عز وجل "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..". صدق الله العظيم.
- المصدر: الجزيرة