مصطفى بوكرن

رأيته على التلفاز وهو يصعد منصة خطبة الجمعة في ميدان التحرير؛ تتولى رباطة جأشه مهمة حبس أدمع فرحته بانعتاق وطنه: مصر من أسر استبداد أذل رقاب بني جلدته، ومن نير فساد التهم خير بلده. كانت فرحته كفرحة كل مصري أحس بأن خير هذا البلد سيكون من نصيب أهله أخيرا. وعلى طريقته، وبموجب مركزه العلمي؛ أراد القرضاوي أن يشارك أهله مشاركة رمزية، وأن يعلن أنه بكل جوارحه يؤيد هذه الأمة، ويرغب أن تستعيد عزتها وكرامتها ومكانتها الدولية والإقليمية. إنه المواطن المصري، والرمز الإسلامي الجليل د. يوسف القرضاوي.

العلاَّمة القرضاوي في العقد التاسع من عمره الآن، لكنه ذو روح مشتعلة، وفكر يتوهج، وعينان تبرقان، وصوت يزأر، إنه الإمام الثائر الشيخ يوسف القرضاوي.

كتب الكثير عن القرضاوي، وصف بالخطيب والمعلم والفقيه والمجدد والمصلح، مع أحداث ثورتي تونس ومصر، أكد صفة الإمام الثائر على الظلم والاستبداد، الإمام الثائر الذي عانق نبض الثوار الشباب، وهتف معهم إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.

من فوق من منبر خطبة الجمعة كان يرسل القرضاوي خطابات نارية يوجهها للرئيسين المخلوعين مبارك وابن علي، فتنزل على الثوار بردا وسلاما في ميدان التحرير وفي محافظات تونس. أمام هذه الحالة الخطابية للشيخ الفقيه، يستوقف المتتبع لسيرة هذا العالم العلم، التساؤل الآتي؛ لماذا ثار الشيخ يوسف القرضاوي وهو داعية الوسطية والاعتدال في العالم الإسلامي؟

القرآن حاكم على السنة وليس العكس

اجتهد دعاة الفكر النصوصي خلال الثورة الشعبية السلمية المصرية، في حشد الكثير من الأحاديث المصنفة في باب الفتن، ثم يأتي القرآن عندهم في المرتبة الثانية، كل ذلك من أجل إقناع جمهور الثورة على المكوث في بيوتهم تجنبا للفتنة، والاهتمام بخاصة أنفسهم كما يشير إلى ذلك حديث أبي حذيفة رضي الله عنه، وهذه المنهجية في التفكير مؤداها أن تصبح السنة حاكمة على القرآن، ولا يستدل بالقرآن عندهم، إلا لتبيان أن ما يعرفه الإنسان المسلم من أحداث، هو نتيجة ذنوبه الكثيرة، ولا يستدلون بالقرآن في عرض مصير الظلم والظالمين والطغاة والمستبدين.

بالرجوع إلى خطب الشيخ القرضاوي وبياناته، القرآن الكريم يحتل مرتبة الصدارة عنده، ثم تأتي السنة للبيان والتوضيح.

- نماذج من الآيات القرآنية: يقول عز وجل: "فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين" (الأنعام: 46)، هذه الآية عرضها الشيخ القرضاوي في الكثير من خطبه، ونبه من خلالها أن سقوط الظالم هو من النعم التي ينبغي على المسلم أن يحمد الله عليها.، ولبيانه شناعة الظلم، فإن الله يحذر من يركن إلى الظالمين من أن تمسه النار، يعرض هذه الآية: "وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ" (هود:113)، وينبه الشيخ إلى أن العذاب إن نزل لا ينزل على الظالمين خاصة بل على من سكت عن المنكر أيضا فيعرض قوله سبحانه: "وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال:25)، ويشير إلى مصير الظالمين بقول الله تعالى: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ" (القصص: 8)، وقوله تعالى: "فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" (القصص:40).

يؤكد القرضاوي بعرضه هذا، على أن القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع والتوجيه، والذي ينهى عن الظلم والطغيان، بغرض إكساب خطابه حجية شرعية مفحمة للمثبطين، الذين يستدلون بأحاديث خبرية مصنفة في باب الفتن، ومنها حديث سلام عن أبي حذيفة، الذي يتضمن زيادة "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضُرب ظهرك، وأُخذ مالك فاسمع وأطع"؛ فاعترض القرضاوي على هذه الزيادة الضعيفة، بقول للإمام الدارقطني جاء فيه:" وهذا عندي مرسل لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة".

- نماذج من الأحاديث النبوية: يستدل القرضاوي بعد عرضه لنماذج من آيات القرآن الكريم التي تنهى عن الظلم وتبين مصير الظالمين، بأحاديث كثيرة منها:

ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته؛ قال ثم قرأ: "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هود: 102).

وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".

وفي المستدرك للحاكم، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم: يا ظالم فقد تودع منهم".

وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن رأى منكم منكرا فليغيِّره بيده، فمَن لم يستطع فبلسانه، فمَن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

وفي صحيح مسلم كذلك، عن ابن مسعود مرفوعا: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب، يأخذون بسنَّته، ويتقيَّدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل".

وروى أبو بكر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الناس إذا رأَوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب من عنده".

إن المتأمل في هذه الأحاديث الواضحة البينة، تشير بجلاء إلى فضل قول الحق أمام الإمام الظالم، وأن الله يعاقب الظالم عقابا شديدا، والإسلام يدعو إلى تغيير المنكر حسب الاستطاعة، وأن السكوت عن المنكر ذنب كبير، فهذه الأحاديث لا يستدل بها أصحاب الفكر النصوصي بالرغم من أنهم يحفظونها عن ظهر قلب، وبعضها أحاديث صحيحة مليحة، وكل ما يرجون له هو الأحاديث التي توجه وتدعو المسلم إلى الاقتلاع عن الذنوب، مع أن الحدث هو حدث تسلط حاكم مستبد.

قواعد ومنهجيات الفهم والبيان

إن هذه الآيات والأحاديث لا يمكن فهمها إلا في ضوء قواعد ومنهجيات مؤطرة، تسلم الفقيه المجتهد إلى الرأي الصواب، ومن خلال تتبع خطب وتصريحات الشيخ القرضاوي حول الثورة المصرية، تم الوصول إلى ما يلي:

- إحقاق العدل أولا: اشتهرت مدرسة الوسطية والاعتدال مع الشيخ يوسف القرضاوي، بإرساء فقه الأولويات والموازنات، وفقه المقاصد، وفي هذا السياق وردا على الدعاة الذين دعوا المصريين إلى المكوث في بيوتهم والابتعاد عن الفتنة، أرجع القرضاوي موقف هؤلاء إلى "عدم استيعابهم لفقه الأولويات، فلا يردوا الظنيات إلى الكليات، ولا المتشابهات إلى المحكمات، ولا الجزئيات إلى الكليات؛ فحرفوا الكلم عن مواضعه، ومن فقه الموازنات الشرعية؛ لا يمكن أن تجامل فردًا على حساب شعب، لا سيما وهو أقرب إلى الأموات منه إلى الأحياء".

هذه الخلفية المنهجية، هي أساس العقل الإسلامي في تعامله مع النص والواقع، وهذا ما يسير عليه الشيخ القرضاوي، فهو يصدر عن أساس منهجي في إصدار المواقف والأحكام، ولا يتعامل مع النص القرآني أو الحديث بطريقة الحكاية والإخبار دون فهم أو استيعاب، كما سار على ذلك بعض الدعاة في سياق تفاعلهم مع الحدث المصري، بل يستدل بالدليل في سياقه مبينا معناه، ويبحث عن القطعيات ويرجع إلى الكليات، ويستدل بالمحكمات، عكس ما سار عليه دعاة التثبيط والانعزال، حيث حشدوا أحاديث الفتن، التي هي من الخبر لا الإنشاء الذي يستند عليه في الحكم التشريعي، لكن القرضاوي، يبرز الكثير من الآيات القرآنية الصريحة التي تبين جرم الظلم وعاقبة الظالمين وثواب من وقف أمام الظلم، إضافة إلى الأحاديث التي تدعوا إلى مواجهة الظلم والاستبداد، وإحقاق العدل الذي هو من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، والذي بغيابه يعسر عيش الإنسان في أمن وأمان، والقرضاوي هنا، يرجع إلى الكليات القطعيات التي تواترت نصوص الشريعة الحث على حفظها، فيرد الجزئيات والظنيات إليها، ليخلص إلى حكم جلي وواضح.

- ليس خروجا مسلحا بل ثورة سلمية: يمتاز الشيخ يوسف القرضاوي بالتدقيق المفاهيمي واللغوي، ويتضح ذلك بجلاء كبير في كتابه معالم وضوابط فقه السنة، ويسير على ذات المنهج في تعاطيه مع حدث الثورة المصرية الشعبية السلمية. ففي رده على من وصف ثوار ميدان التحرير بـ"الخوارج"، عمل الشيخ على تدقيق مفهوم الخوارج كما اشتهروا في التاريخ الإسلامي، فبين أن الخوارج "هم من خرجوا على الحاكم بثورة مسلحة واستحلوا الدماء وكفروا من عادهم، وشباب الثورة المصرية، لم يخرجوا على مبارك لا بمدافع ولا قنابل، بل تظاهروا في ثورة بشكل سلمي، ولم يكفروا أحدا، ولم يستحلوا دم أحد".

إن هذا التدقيق المفاهيمي من أهم الخطوات التي تتجلى به الحقائق والمعاني، والفقيه الذي يعتمد في استدلالته على حفظ فتوى المدونات الفقهية، قد يجد صعوبة في تكييف بعض النوازل المستجدة، فما إن يستجد في أحوال الناس جديد، إلا ويستدعي ذاكرته لكي يجد جوابا، وفي حالة الثورات الشعبية السلمية، التي لم يعرفها التاريخ العربي الإسلامي، ولم يعرف أن الفقهاء القدامى أجابوا على مثل هذه النوازل، فإن هذا الفقيه إن لم يتريث في حكمه فإن سيقيس هذه الثورات السلمية الشعبية على الخروج المسلح على الإمام، ويفتي بالحرمة، والحق؛ أنه شتان بين الخروج المسلح وما يسمى بالثورة الشعبية السلمية، ولبيان ذلك، لابد أن يقوم الفقيه بالتدقيق المفاهيمي لهذه المصطلحات حسب سياقها الزماني والتاريخي. ومن هنا، فإن" الفكر الاستظهارتي" المغرم باستظاهر النصوص والمصطلحات، يخلط بين السياقات التاريخية لكل ثورة، وبهذا المنحى يعطل هذا الفكر أفقه التحليلي، ولا يكلف نفسه عناء التمييز المنهجي، ويهفو إلى البساطة والاستراحة الفكرية، لإنهاء التفكير والتأمل.

- الظلم ثابت ووسائل مواجته متجددة: يعجز الفكر النصوصي عن التفريق بين " المقاصد الثابتة والوسائل المتجددة"، فيضع الوسائل في خانة الثبات، ويعطل التجديد المرتبط بحركية الواقع والتاريخ، فإن تم الاتفاق على مواجهة الظلم والاستبداد كمقصد ثابت، فهذا الفكر لا يستطيع الانتقال ومواكبة ما استحدثته الإنسانية من طرائق جديدة لمواجهة الحاكم المستبد، ومنها العصيان المدني الذي يبدأ في شكل انتفاضة سلمية لا تحمل سلاحا ولا مدفعا، تريد إسقاط الشرعية عن حاكمه المستبد، وينتج عن هذا، إطلاق أحكام جاهزة وقديمة، كل من خرج عن الحاكم المستبد ولو كان ظالما فإنه سيثير الفتنة!، دون أن يبين طريقة الخروج هل هي سلمية أم عنفية؟

ولذلك فالشيخ القرضاوي يؤكد بقوله:" ولقد ابتكر عصرنا وسائل سلمية لمقاومة الحكَّام المستبدِّين والمتسلِّطين على شعوبهم، ومنها هذه الوسيلة الفعالة: وسيلة التظاهر السلمي، تقوم به الجماهير بالنزول إلى الشارع، والهتاف بمطالبها المشروعة، وهي وسيلة ضغط معروفة في العالم كلِّه، وكثيرا ما تؤدِّي إلى سقوط الحكم الدكتاتوري رغم أنفه، دون طلقة نار، لا سيَّما إذا تكاثر المتظاهرون وتكاتفوا".

- حفظ الكيان الإنساني قبل انهياره: لا يمكن الترجيح بين المفاسد والمصالح إلا بقراءة عميقة للواقع، والفكر النصوصي يقفز على الواقع المصري الذي دفع المواطن للثورة على الحاكم المستبد ثورة سلمية، وهذا الفكر يتجه مباشرة للنص لتنزيله دون أن يدرك موضع التنزيل، إلا الشيخ القرضاوي يقدم قراءة واعية وواضحة لواقع مصر السياسي والذي حكمه المستبد لمدة ثلاثين سنة والذي يقول فيه حسب بيان للشيخ القرضاوي:" لقد ظلم الحاكم في مصر، وطغى على الشعب، وضيَّع حقوقه، وأهدر حرماته، حتى تخرج الملايين ولم يجدوا لهم عملا يتعيشون منه، ولا يجد الشاب شقَّة يسكن ويتزوَّج فيها، في حين نرى فئات من الناس نهبوا أرض مصر، وسرقوا ثرواتها، لمجرَّد انتمائهم إلى الحزب الحاكم، كما زور الحاكم الفرعوني في مصر الانتخابات على كل مستوى.. ومكن جهاز أمن الدولة في مصر من التسلُّط على الشعب".

فهذا التشخيص للواقع المصري، يبصر الفقيه العالم حين يتعامل مع نصوص القرآن والسنة، والتي لا تقره بحال من الأحوال، فيبحث الفقيه عن حل لهذا الواقع الأليم الذي يعيش فيه المواطن، وأن يكون حلا دافعا للمفاسد وجالبا للمصالح، هذا من جهته، أما من جهة الشعب الذي يعيش هذا الواقع؛ فبادر إلى حل يراه صحيحا وسليما وهو الانتفاضة السلمية التي تطورت إلى ثورة، وهذه المبادرة تشكل خبرة ميدانية أخذت شرعيتها من الإجماع الشعبي، فما كان على الشيخ القرضاوي إلا أن يقرها خصوصا وهي تدفع الكثير من الظلم والفاسد، والفكر المقاصدي هذا مؤداه، يلتحم مع تطورات الواقع دون أن يخرج عن الكليات الكبرى للدين، والتي جاء لحفظها، الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فينظر إلى هذه الكليات الضرورية أنها مهددة بالزوال، فما عليه إلا أن ينادي في الأمة أن هلموا لحمايتها.

وفي الختام، إن وسطية الشيخ يوسف القرضاوي هي الدافع الرئيس لثوريته، فمنهج الوسطية الاعتدال، الذي يقر بجمع الأدلة في الموضوع الواحد والنظر في القرآن أولا والحديث ثانيا، والذي يولي أيضا اهتماما بالغا للأولويات، أكد أن إحقاق العدل أولا؛ وبطريقة سلمية وفق وسائل العصر المناسبة من أجل حفظ الكيان الإنساني من الانهيار، كل ذلك تحقق في هذه الثورة المصرية، فلم يتوان عن التحريض والدعوة، بل هب ثائرا لكي لا تضيع هذه الفرصة التاريخية.