د. أشرف دوابه
ترتبط الأحداث العظام في تاريخ أمة الإسلام بعلماء عظام يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، وقد كان سلطان العلماء العز بن عبد السلام وغيره من علماء الإسلام السابقين واللاحقين نموذجا حيا لذلك، فلم يرهبهم حاكما وكانوا في وغي الميدان بأعمالهم قبل أقوالهم.
وقد شاءت أقدار الله تعالي يكون العلامة القرضاوي شيخا للثورة المصرية المباركة منذ ولادتها في الخامس والعشرين من يناير ، فقد كان في مصر يوم اندلاع الثورة لحضور مؤتمر بالأزهر الشريف ويومها أعلن موقفه صراحة بتأييده ثورة الشباب على الظلم والطغيان ، ثم ما لبث أن قدم بيانا شافيا وافيا في قناة الجزيرة محفزا الشباب الثوار داعيا حسني مبارك ونظامه الفاسد للرحيل، ثم تناول البعد الشرعي للثورة وما ارتبط بها من تظاهر بصورة واضحة جلية في برنامجه الشريعة والحياة، ثم جاءت خطبته في مسجد عمر بن الخطاب في قطر يوم4/2/2011 دعما للثوار في ميدان التحرير ، حيث تناولت خطبته رسائل ثلاث:للشباب ولنظام الحكم وللجيش المصري ، ثم وجه فضيلته في احتفالية نظمت خصيصا في المسجد بعد الصلاة خطابا بالهاتف للمتظاهرين بميدان التحرير ، وكانت خطبته وخطابه ملامسا للواقع مشجعا الثوار على الصبر والثبات وأن الله ناصرهم ولن يخذلهم حتى أنه في الجمعة التالية في 11/2/2011 أقسم على ذلك وما هى إلا ساعات معدودات حتى تنحى مبارك الطاغية في مساء ذات اليوم.
وقد عرف المنصفون العلامة القرضاوي بعلمه وعمله وخلقه ووطنيته، فهو الوحيد في قطر الذي أبي أن يتنازل عن جنسيته المصرية من أجل الجنسية القطرية ، وكل مصري بقطر يعرف مدى حرصه على مصريته وحبه لبلده مصر، وهو لم يبعد يوما عنها فهى في قلبه ولايجد فرصة في المكوث بها إلا مكث بها ولكنه وجد في قطر ضالته من أجل نشر دعوة ربه رغم أنه لا يخشي حاكما ولا محكوما فهو الذي أعلن علنا معارضته لوجود الأمريكان بقطر ، بل وبالخليج جميعا، وهو الذي لم يغيب أحدا من أهل بيته من أولاده وأحفاده عن الثورة في مصر منذ بدايتها.
ورغم خطبته العقلانية والوسطية كعادته في الجمعة الماضية( 18/2/2011) في ميدان التحرير التي اتسمت بأنها تجمع ولا تفرق بين أبناء الأمة ، ودعوته فيها للعمل والإنتاج ومطالبته الشعب المصري بتأجيل المطالب الفئوية ، وجدنا من يريد أن ينزع عنه جنسيته المصرية التي يعتز بها ويدعي أنه ليس مصريا، ومن يصور وجوده في مصر كوجود الخومينى في الثورة الإيرانية وشتان ما بين الأمرين ولكن من درج على الكلام يستعصي عليه الفهم ، فالخوميني كان في المنفي أما القرضاوي فلما تغيب عنه مصر لحظة واحدة وكان دائم التردد عليها رغم قذارات أمن النظام -المسمى زورا وبهتانا أمن الدولة-ذهابا وإيابا، ولعل ماكشفه شيخ الأزهر د. أحمد الطيب بذات الخصوص في زيارة القرضاوي الأخيرة للأزهر يكشف عقلية هذا الجهاز الفاسد الذي لا بديل له إلا حله ومحاكمة المجرمين فيه.
كما أن العلامة القرضاوي ألقي خطبته وأنجز مهمته وهو دائما يذكر أن الثورة قام بها الجميع ولا يمكن لفصيل أن يدعي قيامه وحده بها ، وهذا واقع فالثورة أكبر من الجميع ولا يمكن لفصيل ممن ساهم فيها أن يوجهها لصالحه سواء أكان الإخوان أو غيرهم لأن الجميع آمنوا بقيمة المشاركة لا المغالبة ، ولكن ما يريده الطابور الخامس من سدنة النظام الفاسد السعي إلى الفرقة بين الثوار وسرقة الثورة وتوجيه الاتهامات للغير بذلك ، وإن شاء الله تعالى لن يكون لهم ما يريدون ما دامت قلوب الشباب نابضة وأفئدتهم يقظة وعيونهم مبصرة.
كما وجدنا من يتهم العلامة القرضاوي ظلما وعدوانا بأنه طالب شعب مصر بإحراق مبارك إذا لم يرحل وهو قول مكذوب فالعلامة القرضاوي هو من أول من أعلن أنها (سلمية سلمية)وحرم المساس بالأشخاص والممتلكات العامة والخاصة ، بل واتهموه بإشعال الفتنة وهم في الفتنة سقطوا ، وبجهلهم وقولهم كذبا وبهتانا عرفوا ، حتى وصل بهم سوء الأخلاق إلى التعرض لحياته الشخصية بالزور والبهتان وزواجه الحلال ناسين أو متناسين أنه شتان بين من يحرص على الحلال وبين أصحاب البلطجة الفكرية والجسدية واللهث وراء الشهوات والمحرمات والدفاع عن فساد النظام الذي كانوا يسبحون بحمده بالليل والنهار.
بل إنهم جعلوا من دعوته لفتح معبر رفح من أجل فك الحصار عن إخواننا بغزة تدخلا في شئون مصر الداخلية ، وكأنهم نزعوا عنه جنسيته المصرية ، وليت هؤلاء فقهوا أن العلامة القرضاوي مصري الروح والجسد ، لا مصرية المصالح والانتفاع التي رضع ألبانها وانفطم عليها الطابور الخامس، وما قاله العلامة القرضاوي هو واجب طالب به ودافع عنه كل مصري أصيل بل خرجت من أجله مئات المظاهرات في مصر من قبل، بل العجيب أن نجد من يرتعد من أمل الشيخ القرضاوي بالصلاة في المسجد الأقصي، الذي هو هدف المخلصين من العرب والمسلمين- كما ارتعد الصهاينة الغاصبون ، وهم بذلك يريدون لمصر أن تعيش في خندق التبعية للصهاينة والأمريكان ولا تخرج من لباس الذل والقهر والعار والخذلان الذي زاد على الثلاثين عاما.
إن العلامة القرضاوي قيل له أثناء الثورة : عرف عنك التيسير فلماذا التشدد مع الحكام ؟، كما قيل له: الأفضل أن تكف عن المجاهرة بتحفيز الثوار حتى لا تحرم من دخول مصر..ولكنه بربانية العالم وجهره بالحق وعدم خشيته في الله لومة لائم لفظ كل ذلك وأعلنها صراحة أنه لا يخشي إلا الله.
إنه العالم الرباني الذي ألف ما يزيد على 170 كتابا تجوب أرجاء الدنيا بلغاتها المتعددة في كافة علوم الشريعة والحياة ، ولا يمكن لمنصف عاقل أن ينسي فضله أو يقلل من مكانته ، فهو رائد لعلماء عصره، ومجدد لدين أمته، بما اتسم به من علم وفير ، وفقه عميق ، وتحليل دقيق ، وأسلوب سهل بليغ ، وحس مقاصدي مستنير، وفراسة إيمانية لا تغيب ، وقوة في الحق لا تستكين. فقد حباه الله بكونه إماما في فقه المقاصد ، وفقه الائتلاف، وفقه المآلات، وفقه الأولويات، وفقه الواقع، وفقه التغيير، وفقه الاقتصاد، وفقه مكارم الأخلاق، وفقه الحلال والحرام، وبعبارة شاملة جامعة: فقه الشريعة والحياة.
وقد عرفه ميدان العمل الإسلامي كمفكر أصيل وهب حياته لدعوة ربه ، وشهر قلمه ولسانه دفاعا عن قضايا أمته، بنظرة علمية، ورؤية تجديدية، ونزعة وسطية ، وقوة إقناعية ، وهذا ما جعل قلوب الطابور الخامس الانتهازيون السفهاء ترتعد من الخوف والهلع بما عرف عنهم من السعي وراء المصالح الشخصية والأكل على كل الموائد ووضع السم في العسل ، والكذب ، وفعلهم ما لا يقولون وقولهم ما لا يفعلون، حتى تعرت تماما طبقتهم الطفيلية التي تعيش على الفساد والمكر والكيد والخداع والتمويه والمراوغة والتآمر ، منخدعين بما ادعوا لأنفسهم بأنهم أذكى الناس وهم في حقيقتهم ذوو جهل وغباء وغيظ ومكابرة وحقد وعناد .
إنه يجب أن لا تنطفأ الثورة إلا بالتخلص من كافة العملاء من زبانية مبارك وفلول نظامه الفاسد ، ومحاكمتهم محاكمة علنية عادلة يسترد بها حق الدم المسكوب ، وحق العباد المهضوم ، وحق المال المنهوب، فلا إصلاح أبدا على أيديهم أو في وجودهم ، وهذا ما أقره الله تعالى في كتابه المسطور إلي يوم الدين (إن الله لا يصلح عمل المفسدين)يونس/81.
- المصدر: صحيفة المصريون