أكرم كساب

ليس هناك أحد أكبر من أن ينصح، كما أنه ليس هناك أحد أصغر من أن يقدم النصح، أما أن يكون النصح بالحق وبالباطل، فهذا أشبه بشهوة الكلام وحبّ الظهور في الإعلام، وأكبر من هذا أن تتحول النصيحة إلى اتهام زائف.

فقد استاء الكثيرون من الأستاذ الدكتور عبد المعطي بيومي، حين صبَّ جام غضبه، ووجه جلَّ نباله، وأوقف نفسه –أو أوقفه غيره- للرد على العلامة يوسف القرضاوي، فلا يخرج العلامة يوسف القرضاوي بتصريح أو فتوى إلا كان الدكتور عبد المعطي بيومي من أول المتقدمين للرد عليه، ومن حق الدكتور عبد المعطي أن يرد، لكن إن كان رده بالحق، وشريطة ألا ينال من شخص ومكانة الرجل الذي أوقف نفسه لخدمة الإسلام ما يزيد عن ثلثي قرن.

وأتعجب لماذا هذا الغضب يا دكتور عبد المعطي، والعلامة القرضاوي لم يتعرض لك بكلمة فيها ذم أو انتقاص على ما لك من الفتاوى الغريبة والآراء التي تخالف فيها جمهور العلماء، وعلى سبيل المثال إفتاؤك بجواز تأجير الأرحام؟!

نعم لعبد المعطي أن يرد على القرضاوي، فليس القرضاوي معصوما، ولا هو فوق النصح أو فوق الرد عليه. لكن المشكلة هنا في تزييف الحقائق، والبعد عن جوهر المشكلة، إلى درجة أن يصل إلى السخرية والاستهزاء.

وقد رأيت العلامة القرضاوي لا يعبأ بهذا الكلام، ولم يشغل نفسه بالرد، وإن كان هذا دوره، فإن دور تلامذته ومحبيه أن يذودوا عنه، لا لشخصه، وإنما لجهاده وعلمه ونضاله.

ما الذي شغل القرضاوي عن الرد؟

والغريب أن القرضاوي لم يكتب كلمة أو سطرا، أو يسوّد صفحة ردا على مهاجميه –وما أكثرهم- والسر في ذلك أن الرجل لديه ما يشغله، فهموم أمته ومشاريعه العلمية والعملية جعلته يحسب لكل لحظة قيمتها، ولكل وقت قدره، وهو الذي وعى عن شيخه البنا "الواجبات أكثر من الأوقات" وهو صاحب كتاب "الوقت في حياة المسلم".

كما أن القرضاوي جعل سهامه مصوّبة إلى أعداء الأمة، ولذلك لم يصوّب سهامه يوما إلى أبناء جلدته، وقد تصدق القرضاوي بعرضه لبني جلدته، وقد قرر هذا أكثر من مرة، ففي كتابه فتاوى معاصرة، تحدث عن المتطاولين عليه فقال: فلما برزت هذه العداوات التي ليس لي نصيب في تحريكها, حمدت الله تعالى عسى أن يكتب لي بعض الأجر بما يصيبني على ألسنة هؤلاء وأقلامهم, فإن المؤمن يثاب رغم أنفه.. لا سيما أني متصدق بعرضي لكل مسلم يؤذيني, إذا لم يكن خائنا لله ورسوله, عميلا لأعداء الأمة وأعداء الإسلام.

تناقض عبد المعطي

والعجيب أن الدكتور عبد المعطي يناقض نفسه في نظرته للعلامة القرضاوي، فهو حتى الآن لم يستقر على رأي فيه، إذ تتضارب أقوال عبد المعطي وتصريحاته في القرضاوي وعلمه، وحتى لا يتهمني القراء بأني ألقي الكلام على عواهنه، أنقل هنا بعضا من هذا التناقض.

1- حين عُيّن العلامة القرضاوي عضوا بمجمع البحوث قال الدكتور عبد المعطي بيومي في حوار نشرته الشرق الأوسط عدد 10815: إن ضم الشيخ القرضاوي لم يتأخر كما يظن البعض، لأن المجمع لم يكن قد شرع في العمل على ضم جنسيات أخرى –على اعتبار أن القرضاوي يحمل الجنسية القطرية- وبمجرد تفعيل هذا البند كان الشيخ القرضاوي في طليعة المنضمين للمجمع.

وأعرب عبد المعطي عن أمله في أن يدعم انضمام القرضاوي للمجمع تيار الوسطية في العالم الإسلامي، وأن يتناغم جهده البارز مع منظومة العمل الأزهري.

2- حدثني العلامة عبد العظيم الديب –رحمه الله- قبل وفاته بخمسة أيام أنه رأى الدكتور عبد المعطي -أيام عمله في جامعة قطر- وهو يحاول تقبيل يد الشيخ القرضاوي، فما الداعي للتقبيل؟ وما الذي غيّّره؟!

3- وقد رأيت بأم عيني وسمعت بأذني في ندوة عقدتها كلية الدراسات الإسلامية عام 2008، وقد دعي لها الدكتور عبد المعطي بيومي متحدثا مع غيره عن "الاختلاف في الإسلام"، رأيته وهو يثني على العلامة القرضاوي، وما يذكره إلا بشيخنا وأستاذنا! فما الذي غيّره؟!

ثم بعد هذا الثناء والتقدير يأتي عبد المعطي ليجعل فتاوى القرضاوي محرضة على الإرهاب، ووصف القرضاوي بشأن جدار الذل والعار هو ومن معه من علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بـ"المزيفيين لوعي الجماهير" وأن القرضاوي بفتواه هذه هو ومن معه يوظفون أنفسهم وعقولهم ضد مصلحة مصر لمصلحة قطر!! وأن المعارضين للجدار لا ثقل لهم ومستواهم لا يصل مطلقا إلى مستوى علماء مجمع البحوث.

ثم زاد الدكتور عبد المعطي بيومي الطين بلة حين ادعى عجز القرضاوي إزاء دليل قدّمه مجمع البحوث الإسلامية يؤكد شرعية الجدار.. والقارئ للفتوى المزعومة التي أصدرها المجمع لا يرى فيها دليلا معتبرا، بل هي أشبه ببيان سياسي خرج من رحم الحكومة لا من رحم الشريعة، وصاغه ساسة لا علماء.

وأغرب من هذا أن الدكتور عبد المعطي يذكر لنا أن الصحف الإسرائيلية رحبت كثيرا بفتاوى القرضاوي.. ولا أدري هل يعلم الدكتور بيومي أن العلامة القرضاوي على رأس قائمة العداء لإسرائيل؟! وأن منعه من دخول أميركا وأخيرا بريطانيا إنما لمواقفه الجريئة والشجاعة –التي يمليها عليه دينه وخلقه– من إسرائيل!!

وأقول للدكتور عبد المعطي يا دكتور عبد المعطي: لماذا هذا السب، وأنت العالم الأزهري؟! يا دكتور عبد المعطي: الأصل أنك تعرف القرضاوي جيدا، وأنك تدرك قامة الرجل الفكرية، ومكانته العلمية، ومنزلته الفقهية، ولا يخفى عليك عطاؤه في ميادين العلم والدعوة والتوجيه والإرشاد. وأنت الذي خبرته في كلية الشريعة في قطر، فعرفت علمه وفضله وخلقه ونبله. وإن كنت لا تعلم فأنقل إليك بعضا مما قاله أهل العلم المعتبرين في علمه، وهو ما توضحه النقطة التالية.

مكانة القرضاوي العلمية

لقد أدرك الفقهاء والعلماء والدعاة مكانة القرضاوي، ولم يكن الأمر وليد أيامنا هذه أو عقد مضى، وإنما وليد عقود مضت، ويكفي أنه كلف بتأليف كتابه الذي عرف به (الحلال والحرام) من قبل مشيخة الأزهر، وهو في أوائل العقد الرابع من عمره (32 سنة)، وفي الأزهر وقتها فقهاء جهابذة، وعلماء متمكنون، وهذه أقوال بعض من عاصروه أو عايشهم:

الغزالي: القرضاوي من أئمة العصر, الذين جمعوا بين فقه النظر وفقه الأثر, وقال أيضا: لقد سبق القرضاوي سبقا بعيدا, وحينما سئل عنه قال: أنا مدرسه, وهو أستاذي. الشيخ يوسف كان تلميذي, أما الآن فأنا تلميذه.

الندوي: القرضاوي عالم محقق, وهو من كبار العلماء والمربين.

بن باز: كتبه لها ثقلها وتأثيرها في العالم الإسلامي.

مصطفى الزرقا: القرضاوي حجة العصر, وهو من نعم الله على المسلمين.

عبد الفتاح أبو غدة: القرضاوي فقيهنا ومرشدنا العلامة.

عبد المعطي بيومي وأعضاء المجمع

وأود أن يخبرنا الدكتور عبد المعطي بيومي عن تخصصه وتخصص أعضاء المجمع. ما يعلمه القاصي والداني أن الدكتور بيومي ليس من أهل الفقه، وإنما هو من أهل الفلسفة، ولم نر للدكتور بيومي كتبا ذاع صيتها لا في الفلسفة ولا في غيرها، ولهذا أقول: إن القرضاوي من حققه أن يتحدث في الفقه لأنه صاحب "فقه الزكاة"، والاجتهاد في الشريعة الإسلامية.. وغيرها كثير.. وأخيرا فهو صاحب "فقه الجهاد".

ثم إن القرضاوي صاحب الجوائز المتخصصة في الفقه والدراسات الإسلامية، كجائزة الملك فيصل، وجائزة العطاء العلمي المتميز من رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وجائزة السلطان حسن البلقيه "سلطان بروناي" في الفقه الإسلامي، وغيرها..

كما أن أعضاء المجمع لم يقل أحد بأنهم جميعا من ذوي التخصصات الشرعية، وإنما فيهم صاحب الفقه وصاحب الاقتصاد وصاحب الفلك وصاحب الطب وصاحب التاريخ.. وهذا كله مطلوب وضروري. ولكن في قضية كقضية جدار العار فإنها تحتاج إلى علماء لهم خبرة بالسياسة الشرعية، لا خبرة بالفتاوى المفصلة، ولا الآراء الحكومية.

عبد المعطي بيومي و"فقه الجهاد"

لما صدر للعلامة القرضاوي "فقه الجهاد" وهو ليس مجرد كتاب، وإنما هو موسوعة تضم إلى الموسوعة، التي عرف بها القرضاوي بين طلاب العلم، ومدحه عليه حتى مخالفوه، وأكبروا له هذه الخدمة الجليلة للعلم وللمكتبة الإسلامية، وهي كتاب "فقه الزكاة"، والكتاب أثنى عليه العلماء والدعاة.. ولكن الدكتور بيومي ادعى أن القرضاوي في هذا الكتاب لم يأت بجديد حتى الآن، وأنه لم ير فيه أي جديد، بل ذكر: أن هناك موضوعات تحتاج إلى مراجعات في كتاب القرضاوي.

وأنا أتساءل: إن كان الكتاب "فقه الجهاد" لم يأت بجديد فلماذا ترى فيه وزارة الأوقاف المصرية كتابا نافعا؟! بل أعلن وكيل الوزارة أن الوزارة ستسعى لتدريسه لأئمتها وخطبائها.

بيومي لم يقرأ "فقه الجهاد"

ويبدو أن الدكتور بيومي لم يطالع "فقه الجها"د، ولم يكلف نفسه تصفح الكتاب تصفحا متأنيا -وهو الأستاذ الأكاديمي- حتى إذا حكم على الكتاب كان حكمه عن تصور حقيقي، وهو ما قرره العلماء حين قالوا: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

وأغرب ما في كلام الدكتور عبد المعطي أنه قال: حينما نتحدث عن "جهاد الطلب"، نرى أنه يجعل من غاياته أن يكون العدو في عقر داره.. مما يجعل الأعداء يفهمون الجهاد في الإسلام على أنه "جهاد توسعي".

وليتك يا عميد كلية أصول الدين (سابقا) طالعت ولو على الأقل فهرس "فقه الجهاد" ليتبين لك جزء من الحقيقة، وهو عكس ما انتقدتَ به القرضاوي.

لقد ذكر القرضاوي تقسيم الفقهاء للجهاد إلى: جهاد دفع، وجهاد طلب، ثم ذكر الخلاف بين الفقهاء في جهاد الطلب، وقسمهم إلى قسمين: معتدلين، وهجوميين، ويتضح رأي القرضاوي من قوله: وأودُّ أن أذكر هنا بصراحة: أن لرأي إخواننا من أصحاب (الجهاد الهجومي) –الذي يعلن الحرب على الشرق والغرب، والشمال والجنوب، والأبيض والأسود، والمسالم والمحارب- أثارا عملية خطيرة، نلمس ثمراتها في الواقع.

ثم يعقب القرضاوي على كلام واحد من متبني هذا الفكر بقوله: إن هذا الكاتب وأمثاله يؤذون الإسلام بأكثر مما يؤذيه به أعداؤه المجاهرون، ويخدمون أعداء الإسلام من حيث لا يشعرون بأكثر مما يخدُمهم المبشرون والمنصِّرون، فهم يضرون حيث يريدون أن ينفعوا، ويهدمون حيث يريدون أن يبنوا، وقديما قالوا: عدو عاقل خير من صديق أحمق!

وإذا أراد الدكتور عبد المعطي المزيد فليراجع هذه الموسوعة الممتعة، التي زانها كمال الاستيعاب، وروعة التقسيم، ودقة التحقيق، وعظم المضمون، وحسن الاستدلال، ومتانة التأصيل، وحسن الاستنباط، وأدبية الأسلوب، وجمال الربط بين النصوص والواقع.

وأما الفتوى التي نسبت إلى مجمع البحوث، والتي يزعم عبد المعطي أن القرضاوي لم يستطع الرد عليها، فأقول للدكتور عبد المعطي: إن العلامة القرضاوي تحدث بلسان الأمة، وعبّر عن مكنون صدورها، لسانه لسان حال العلماء الربانين، والدعاة المخلصين، والأحرار الشرفاء، ولم يسكته تسلط حاكم، ولا تهديد ظالم، ولا خوف على حياة، ولا طمع في دنيا، ولا حرص على شهرة.

نعم لقد قال القرضاوي قولة الحق، وصدع بما لم يصدع به غيره، ووافقه على ذلك علماء متخصصون، وليسوا شرذمة يا أيها الدكتور. وهم بالمئات والألوف بل بعشرات الألوف.

وما الفرق بين ما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية: أن عمر بن الخطاب أغرم قومًا دية رجل مات عطشًاً لأنه طلب منهم فضل الماء فلم يعطوه حتى هلك. وما ذكره الجويني في كتابه الغيّاثي: "إذا هلك فقير واحد والأغنياء يعلمون به أثموا جميعًا"، ويقول في موضع آخر: "إذا هلك فقير واحد بين ظهراني أغنياء علموا بحاجته أثموا جميعًا من عند آخرهم، وكان الله طليبهم وحسيبهم يوم القيامة"، وبين ما قاله القرضاوي؟!

وأما إذا كان الدكتور عبد المعطي يريد أن يعرف موقف القرضاوي من قطر وحكومتها فيلخصه موقفه حين زار شمعون بيريز الدوحة فعارض القرضاوي هذه الزيارة من على منبر مسجده, بل قالها صريحة: على الذين صافحوا بيريز ووضعوا أيديهم في يده أن يغسلوا هذه الأيدي سبع مرات إحداهن بالتراب, وقد كان من بين المصافحين له أمير دولة قطر.

وللدكتور عبد المعطي أن يطالع الصحف والجرائد ليعلم أن العلامة القرضاوي اعترض على المكتب التجاري الخاص بإسرائيل في الدوحة، واعترض على بعض فقرات الدستور القطري، واعترض على وجود القواعد الأميركية، وهو في كل ما يرى من خلل أو خطأ يوجه النصح كما وجهه إلى مصر التي ربي فيها وما زال يحفظ لها سابق الفضل.

وأخيرا: يا دكتور عبد المعطي لقد شرّق القرضاوي بعلمه وغرّب، وجاوزت كتبه الخمسين بعد المائة، وكتب عنه الكتاب والمفكرون والعلماء والمتخصصون، ونوقشت في فقهه وفكره وعلمه وأدبه ونثره ورؤاه الفكرية والتربوية رسائل الماجستر والدكتوراه وجلها من الجامعة التي تنتمي إليها، وهي جامعة الأزهر العريقة، فإن كان في مجمعكم من قدّم مثل ما قدّم القرضاوي، أو قدّم في علمه مثل ما قُدّم في علم القرضاوي فأخبرني من هو؟!

وأخيرا فليس القرضاوي معصوما، وليس كلامي هذا من باب التقديس، فللشيخ -حسب ما أرى- أراء جانبه فيها الصواب، لكنها مغمورة في بحور حسناته، وحسبه أنه اجتهد، فإن لم يدرك الأجرين، فقد ناله أجر واحد. ولهذا فإن ما خطه قلمي إنما هو دفاع عن الحق الذي تبناه القرضاوي، ودمغ للباطل الذي يدافع عنه الآخرون.

- المصدر: الجزيرة