نعى العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وفاة رجل الثقافة والدعوة والتربية الدكتور عز الدين إبراهيم.

وقال فضيلته إن الأمة الإسلامية، والدعوة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، والتربية الإسلامية، فقدت رجلا من خيرة رجالاتها، وعَلَما من أبرز أعلامها، وحكيما من صفوة حكمائها، ورائدا من أنبغ روَّادها، وحاديا من أهدى حُداة ركبها، إنه الأخ الحبيب، والصديق الأثير، العالم الباحث الأديب، والداعية المربي الكبير، الأستاذ الدكتور عز الدين إبراهيم، الذي ربطتني به روابط عدَّة منذ نحو ستين عاما، حتى فرَّق بيننا هادم اللَّذات، ومفرِّق الجماعات (الموت).

عرَفتُه قبل أن ألقاه، فقد كان من طلاَّب الإخوان المسلمين المتميِّزين في جامعة القاهرة، (جامعة فؤاد الأول)، مع مصطفى مؤمن وسعيد رمضان، وغيرهما، وكنا نحن طلاَّب الإخوان في الثانوي حينذاك نعتزُّ بهم ونفخر.

أول ما لقيتُه واستمعتُ إليه، أظنُّه كان في سنة 1946م، حين كنتُ في القاهرة لمناسبة من المناسبات، وكان شأننا إذا كنا في القاهرة أن نزور المركز العام للإخوان، ونحاول لقاء الأستاذ المرشد حسن البنا، وقلَّما كان يُتاح لنا ذلك.

وفي هذه المرَّة قيل لنا: في هذه الليلة يُقام احتفال بذكرى المولد النبوي بشُعبة السيدة عائشة بالقلعة، وسيخطب فيه بعض الدعاة الشباب، ومنهم عز الدين إبراهيم، فحرصتُ على أن أشهد الاحتفال لأستمع إلى عز الدين إبراهيم، الذي عشقته أذني قبل أن يراه بصري. والأذن تعشق قبل العين أحيانا.

وقد حضرتُ مع بعض الإخوة إلى الشعبة المذكورة، وشاركنا في هذا الاحتفال بالاستماع إلى خطبائه، الذي كان في طليعتهم الشاب الجامعي عز الدين إبراهيم، الذي تحدَّث عن السيرة النبوية، وانتقد ما يقدَّم للشَّعْب في (قصة المولد)، التي تُتلى على الناس في كلِّ شهر ربيع الأول، وفيها من الأحاديث الواهية والموضوعة ما فيها.

واستمعتُ إلى عز الدين إبراهيم يتحدَّث عن واجبنا نحو السيرة النبوية، حديثا جديدا، كان فيه موثَّق العلم، مرتَّب الفكر، سليم الأداء، يملك رؤية واضحة للسيرة النبوية، وخصوصا قصص المولد النبوي التي تُعرض على الناس في المساجد، وقد تُقرأ في البيوت، وضرورة تصفيتها من هذه الشوائب التي لا تتَّفق مع قرآن ولا سنة ، ولا علم محقَّق. وعرض السيرة السليمة التي تُتَّخذ منها الأسوة المحمدية، ويقتبس الناس من دروسها النيرة ما ينفعهم، ويرقى بهم في دينهم ودنياهم.

وكان أهم ما اكتسبتُ من هذا الحفل اكتشافي هذا الداعية المعلِّم والمصلح، وإن لم تُتَح لي فرصة للتعرُّف به في تلك الليلة، لتزاحم الحضور عليه، ولأني غريب ومغمور لا يعرفني أحد، أو يهتمُّ لي. كما كنتُ متعجِّلا لأبحث عمَّن يستضيفني لأبيتُ عنده تلك الليلة، فهذا ما كان يهمُّني ويشغلني طوال مقامي في القاهرة.

وحين اعتقلنا سنة 1949م في معتقل هايكستب والطور، لم يكن معنا عز الدين، فقد عرَفنا أنه واثنين من إخوانه غادروا مصر عن طريق الصحراء الغربية، ورحلوا إلى ليبيا، ولقوا الملك إدريس السنوسي، وطلبوا منه اللجوء السياسي، بعد خطبة بليغة ألقاها عز الدين، فأجارهم الملك، فشعروا بالأمان، كما شعر موسى حين قصَّ قصَّته على الشيخ الكبير في مدين، فقال: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (القصص:25).

وقد جمعنا الاعتقال في (الحلِّ الأول) للإخوان في عهد الثورة في يناير 1954م، حين التقينا في معتقل العامرية، وقد عملنا على تحويل المعتقل جامعا للعبادة، وجامعة للتثقيف، وجمعية للتعاون على الخير. يبدأ يومنا من قبل الفجر بالتهجُّد، وتلاوة القرآن، وذكر الله ، والتضرُّع إليه بالدعاء والاستغفار، ثم صلاة الفجر في جماعة، ثم قراءة الأذكار والأدعية المأثورات، ثم درس علمي رُوحي، أُلقيه أنا، أو الأخ العسال، أو الأخ عز الدين إبراهيم، أو الأستاذ عطية الشيخ، أو غيرهم من دعاة الإخوان.

وما هي إلا أيام قليلة ونحن في معمعة هذا النشاط ، حتى نُودي على ستة من المعتقلين دون غيرهم، لينقلوا إلى القاهرة، كان عز الدين واحدا منهم. وهم: محمود عبده، ومحمود حطيبة، ومحمود نفيس حمدي، وأحمد العسال، ويوسف القرضاوي.

ولكن بالنظر في الأسماء التي نُودي عليها، يستحيل أن يفرج عنها قبل غيرها، وهم من قادة العمل الطلابي والشبابي والدعوي.

وذهبت ظنون الإخوان وتفسيراتهم مذاهب شتى، لماذا هؤلاء دون غيرهم؟ وهل هم مفرج عنهم؟ ولماذا؟ وكيف؟ وهم من أنشط الإخوان؟ حتى قال بعضهم: إنهم أخذوهم ليحرموا الإخوان في المعتقل من نشاطهم ومحاضراتهم، ولكن قد ينطبق هذا على عز الدين والعسال والفقير إليه تعالى.

وقال بعض الإخوان: لعلهم يريدون أن يتفاوضوا مع شباب الإخوان خاصة، وكله ظن وتخمين، والظن لا يغني من الحق شيئا.

إلى السجن الحربي

على كل حال أخذنا نحن الستة في سيارة كبيرة، ووصلتنا إلى مكان في ضواحي القاهرة، أدخلنا إليه، فإذا هو السجن الحربي الذي بتنا فيه ليلة اعتقالنا.

وقد وضعنا في سجن رقم (4) في زنازين انفرادية، وكان هذا هو السجن الذي ضم بعد ذلك الأستاذ الهضيبي المرشد العام وعددا من قادة الإخوان.

ورغم أن كلاًّ منا كان في زنزانة انفرادية، فقد سمحوا بفتح الزنازين معظم النهار، وكنا نتزاور، ونصلي في جماعة، وقد أمرني الأستاذ المرشد أن أكون إماما لهم، فكنت أصلي بهم، وأطيل في الصلاة الجهرية، بحيث أقرأ ربعا أو أكثر أحيانا في الركعة ، فنصحني الأستاذ أن أخفف. وكان هذا من فقهه رحمه الله، رعاية للكبير والضعيف وذي الحاجة.

وأراد الأخ عز الدين أن يصدر مجلة باسم المعتقل، وطلب إلي أن أشارك فيها بقصيدة، فأنشأت قصيدة (زنزانتي) المنشورة بديواني (المسلمون قادمون) ومن قارن وصف الزنزانة في هذه القصيدة ووصفها في قصيدتي (النونية) الشهيرة يعرف الفرق بين الاعتقال الأول في يناير 1954م والاعتقال الآخر في أكتوبر 1954م وما بعده.

وبعد خروجه من السجن الحربي، واصطلاح رجال الثورة مع الإخوان، في ظاهر الأمر على الأقل، في أواخر مارس 1954م فكر عز الدين وجماعة من أصدقائه أن يغادروا مصر إلى سورية الشقيقة، وكانت الأجواء فيها آمنة بعد زوال حكم الشيكلي، وكانوا لا يأمنون تغير الأحوال في مصر، وبخاصة أن العسكر غير مأمونين. فخرج عز الدين هو وعبد الحليم أبو شقة وحسن المعايرجي، وإخوة آخرون، للعمل هناك، وقد تزوج عز الدين من سورية، كما تزوج صديقه المعايرجي من لبنان.

ثم فتح لهم باب جديد، هيأه الله لهم، وهو (قطر)، والتي كانت في بداية نهضتها، ووصلها قبلهم زميل لهم من الإخوان، وهو الأستاذ عبد البديع صقر، الذي تولى إدارة المعارف، في عهد الشيخ علي، وتحت إشراف الشيخ قاسم درويش، رئيس لجنة المعارف. وأضحى في حاجة إلى رجال ثقات يعاونونه في التدريس والإدارة والتفتيش.

كانت قطر واحة طيبة وارفة الظلال لعز الدين وإخوانه، وقد التقى بهم فيها إخوة جاؤوا من السودان مثل كمال ناجي وعلي شحاته، ضمتهم المعارف. وذلك قبل أن أجيء إلى قطر بعدة سنوات.

وبعد مدَّة حدثت فيها تغيرات، غادر عز الدين قطر إلى لندن للحصول على الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة لندن، ثم عاد إلى قطر، وقد أصبح زميله وصديقه كمال ناجي مديرا للمعارف، فأصبح الساعد الأيمن له. وكان وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت هو الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني رحمه الله.

بصمات الخير

وقد كان لعز الدين (بصماته) الواضحة في معارف قطر، فهو الذي قاد مسيرة تأليف كتب معاصرة في اللغة العربية، مستوفية لكل الشروط اللازمة للكتاب المعاصر.

وقد اجتهد الدكتور عز الدين أن يراعي في هذه الكتب كلَّ المتطلَّبات والتوازنات العلمية والدينية والتربوية والاجتماعية والسياسية، بدقَّة وأمانة وإتقان. وظهرت مجموعة كتب في القراءة والنصوص متميِّزة في موضوعاتها وشمولها وتنوُّعها وتوازنها وأسلوبها، كانت نموذجا يحتذى في المنطقة.

وكان لعز الدين مبادرات مبتكرة وبناءة، ومنها: ما اقترحه من عقد مؤتمرات دوريَّة لمديري المدارس، وكان هو يرأس هذه المؤتمرات، ويساعده بعض المفتِّشين، وهذه المؤتمرات ناقشت المشكلات التي تواجهها المدارس، من جهة الطلاب، أو من جهة المدرسين، أو من جهة المناهج أو الكتب، أو من جهة أهالي الطلاب أو غيرها. وتدرس الاقتراحات من خلال الممارسة العملية، والتجارب الواقعية.

وهذه المؤتمرات هي التي وضعت لوائح المدارس الداخلية، ومنها لائحة المعهد الديني. وأذكر أنه كان في مقدِّمة هذه اللوائح: أن هدف هذه الوزارة بمدارسها ومؤسساتها: تكوين جيل جديد، مؤمن بالله، معتزٌّ بالإسلام، مستمسك بتعاليمه، متكامل النماء في جسمه وعقله وروحه ووجدانه، يعمل لرفعة وطنه ودينه وعروبته وأمته والإنسانية جمعاء.

وكان لنا مع الدكتور عز الدين جلسات أخوية روحية وفكرية، نتبادل فيها الأحاديث ونتذاكر فيها المعارف، ونتواصى فيها بالحق والصبر، ونتعاون على البر والتقوى، وكان عز الدين يسمي هذه الجلسات (جلسات التسليك) أخذا من (تسليك) الصوفية لمريديهم في الطريق، حين يرتقون بأتباعهم من درجة (مريد) إلى درجة (سالك).

وكان حضور هذه الجلسات هم: عبد الحليم أبو شقة، وحسن المعايرجي، وعز الدين إبراهيم، وأحمد العسال، ويوسف القرضاوي. وكل واحد من هؤلاء (شيخ) في نفسه وفي حقيقة الأمر، فلم يكن بيننا شيخ ومريد. ولكن إخوة متحابون، يتناصحون ويتذاكرون، وإن كان أنشطنا هو الأخ عبدالحليم رحمه الله. وقد جاء عن سيدنا سلمان الفارسي: مثل الأخوين المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان قط، إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيرا. ولما سافر الأخ العسال إلى لندن استمرت الحلقة بالأربعة الباقين.

وقد ظلت هذه الحلقة تجتمع اجتماعات غير منتظمة، حتى فرق بينها الزمن بعد ذلك، فسافر المعايرجي إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراة، وتعاقد عز الدين مع جامعة الملك سعود بالرياض ليعمل بها أستاذا، وعقد عبدالحليم العزم على أن يتخلى عن الوظائف الرسمية، وينشئ (دارا للنشر) بالكويت، ليتفرغ للبحث والدراسة.

وبعد أن أرسى الدعائم الإدارية والتربوية في وزارة التربية في قطر، رأى أن يتفرَّغ للجانب العلمي والأكاديمي، حتى لا يستهلكه العمل الإداري، ويصرفه عما يحرص عليه من العلم والثقافة، فتعاقد مع المملكة العربية السعودية، وبالذَّات مع جامعة الملك سعود (جامعة الرياض)، ليعمل في تدريس اللغة العربية، وفي طرق تدريس اللغة العربية، وهو ما درسه في معهد التربية العالي في مصر.

وقد شجَّعتُه على ذلك - مع أنه سيحرمنا فرصة التلاقي المستمر، الذي كنا نسعد به في قطر - ما أعلمه من قدرته على العطاء العلمي والفكري، وحرام أن يظلَّ مثله حبيس العمل الإداري.

وفي مجال حوار الحضارات والثقافات والأديان والإيديولوجيات، شارك الدكتور عز الدين ابراهيم في العديد من الفعاليات في هذا المجال والتي نظَّمتها منظمة الإيسيسكو داخل الوطن العربي وفي أوروبا وعددها ثمانية... ودرَّس موضوع حوار الحضارات والثقافات في المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية بدولة الإمارات العربية المتحدة، لأكثر من فوج... وهو عضو مؤسِّس لحركة الإسلام والغرب التي أُنشئت في منتصف السبعينيات، وشارك على مدى الأربعين سنة الماضية في معظم الحوارات الإسلامية– المسيحية. وناب عن منظمة المؤتمر الإسلامي في مقابلة البابا بولس السادس سنة 1976م، وهو عضو مؤسس ومشارك في الفريق العربي للحوار الإسلامي- المسيحي ومقره بيروت. وناب عن العالم الإسلامي في لقاءات السلام العالمية التي نظمتها الكنيسة الكاثوليكية في روما (2002م) وميلانو (2004م) وليون بفرنسا (2005م)، وأصدر رسالة مطبوعة بعنوان: بعد أربعين سنة من الحوار الإسلامي المسيحي، ما الجدوى؟ وما المستقبل؟

وقد تشاركنا في عدد من هذه الحوارات، وخصوصا حوارات القمة الإسلامية المسيحية الأولى في روما (2001م)، والثانية في برشلونة (2004م)، وكنا على وشك عقد قمة ثالثة في روما، لولا إساءة البابا في محاضرته الشهيرة بألمانيا، إلى نبي الإسلام، ورسالة الإسلام، فجمَّد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين العلاقة مع الفاتيكان، وقبل د. عز الدين وبعض المسلمين ما اعتبروه شبه اعتذار من البابا.

وقد قال في مؤتمر القمة الإسلامية المسيحية في برشلونة: إن الحوار الإسلامي المسيحي قد شاخ، فقد صار له أربعون سنة، ولم يحقق ما كان يرجى منه من ثمرة!

وفي شهر رمضان اتصل بي الأخ الصديق محمد الشافعي صادق، وقال: هل بلغك خبر الدكتور عز الدين إبراهيم؟ قلت: خير، لم يبلغني عنه أي شيء؟ قال: عرفت أنه أصابه المرض الخبيث في كبده، وقد سافر إلى أمريكا للعلاج، والدولة هناك معنية به.

قلت: أسأل الله الذي كشف الضر عن أيوب أن يكشف الضر عنه، هل تعلم له هاتفا كي نتصل به ونطمئن عليه وندعو له؟

قال: عندما أعرفه سأعطيك إياه. وقد اتصل بي بعد ذلك، وأعطاني هاتف ابنته الدكتورة هدى. وقد اتصلت به عدة مرات، فيرد علي مجيب الجوال المسجل.

ثم عرفت أخيرا أن حالته تدهورت، وأنهم سينقلونه إلى (أبو ظبي).

وأخيرا أخبرني صديقه وأخوه الدكتور جمال الدين عطية من جدة صباح السبت (30/1/2010م)، أنه وافاه الأجل في إحدى مستشفيات لندن في طريقه إلى الإمارات، فلم نملك إلا أن نقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون" إن لله ما أخذ، وله ما اعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.

من نعزي في الفقيد الحبيب؟ أنعزي أنفسنا، أم نعزي أسرته التي فقدت أغلى ما لديها، عبد الرحمن ووالدته وشقيقتيه، أم نعزي الأمة الإسلامية في رجلها المثقف، وعالمها المربي، وداعيتها الكبير؟

.........

- المصدر: صحيفة الراية القطرية، بتصرف