بينما كان فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي يدعو من بيروت لإطلاق حملة عالمية لإنقاذ القدس شعارها (ادفع دولارا تنقذ مقدسيا) خلال افتتاحه المؤتمر السابع لمؤسسة القدس الدولية كانت وزارة الأوقاف التابعة للسلطة الفلسطينية برام الله توزع نصّ خطبة على خطباء مساجد الضفة الغربية لمهاجمته (يوم الجمعة الماضية) في إطار حملة دعائية شرسة لسلطة رام الله وحركة فتح وماكينتهما الإعلامية.
والحقيقة أن محمود عباس رئيس سلطة برام الله هو من دشن هذه الحملة ضد القرضاوي وحرّض جوقته المحيطة به على ذلك حينما زعم أن الشيخ طالب برجمه في مكة المكرمة نظرا لموقفه من تأجيل مناقشة تقرير غولدستون الذي يفضح جرائم إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة، ثم حذت أبواق السلطة وحركة فتح التي يتزعمهما حذوه، وساوت اللجنة المركزية لـ "فتح" في اجتماعها الأخير بينه وبين بنيامين نتانياهو والحكومة الصهيونية، في تصرف مسفّ لا يمكن أن ينطبق عليه سوى ما ورد في الحديث الشريف "إن لم تستح فاصنع ما شئت"، خصوصا أن الشيخ القرضاوي لم يصدر عنه سوى أن "من يثبت صحة اتهامه بالتورُّط في هذا الأمر (سحب تقرير غولدستون) يستحق الرجم في مكة عقابا على خيانته إخوته في غزة، ورضوخه للتهديدات الصهيونية".
وكان لافتا أن صحفيين علمانيين في صحف عربية دولية وغير دولية قد غاظتهم جرأة الشيخ بالحق فانبرت أقلامهم في ذات الوقت بانتقاد القرضاوي بدعاوى زائفة، قديمة جديدة، وهي: انحيازه لطرف على حساب آخر، وتدخله كرجل دين في مسألة سياسية مستخدما حصانته ومكانته، على حد تعبيرهم.
إن ما يتعرض له الشيخ يعد بمثابة ضريبة لجأره المستمر بالحق وتبيانه الحكم الشرعي للناس دون أن تأخذه في الله لومة لائم، لا سيما وأنه يعد أبرز فقهاء المسلمين في عصرنا، و"فقيه الصحوة الإسلامية" بلا منازع. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان منتقدوه (من الأقزام) ينتظرون من داعية ومفكر وفقيه بقامة القرضاوي العلمية ووزنه المؤثر أن يغيب بآرائه وفتاواه الشرعية عن موضوعات حساسة تتعلق بقضية العرب والمسلمين الأولى وهموم الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، أو أن يمتنع عن الإفصاح عنها أو تبليغها للرأي العام العربي والإسلامي إحقاقا للحق وإبطالا للباطل وتبرئة للذمة، لمجرد أنها تفضح مؤامراتهم المتواصلة وتعري أفعالهم القبيحة وتكشف نواياهم المبيتة، أو تتعارض مع مواقفهم السياسية على أقل تقدير.
وهل يمكن أن يكون مقبولا من مسلم يفهم جوهر دينه أن يطلب من الدعاة وعلماء الشريعة ألا يعيشوا هموم أمتهم أو ألا يتفاعلوا معها أو ألا يسخروا طاقاتهم الدعوية لنصرة قضاياها الراهنة، وكشف المؤمرات المحيطة خصوصا إذا كان الأمر يتصل باحتلال الأرض والمقدسات وانتهاك آدمية الإنسان، بدعوى إقحام أنفسهم في مسائل سياسية، أو الخلط بين الدين والسياسة!!
إنهم ربما يقبلون فقط بعلماء السلاطين الذين يفتون وفق ما يريدونه، أو بأصناف أخرى لا تتحدث عما يفعلون بسبب الخوف والجبن.
إن انزعاج السلطة من القرضاوي- في اعتقادنا- ليس وليد فتواه بخصوص إرجاء مناقشة تقرير غولدستون فقط، وإنما يعود لمواقفه السابقة واللاحقة الداعية بقوة لرفع الحصار عن أهل غزة وتحريم وتجريم كل تصرف يسعى لتكريس هذا الحصار سواء صدر عنها أو عن النظام المصري أو غيرهما، والوقوف إلى جانب حق الفلسطنيين في المقاومة بكافة أشكالها ضد الاحتلال، وهو أمر كفلته الشرائع السماوية والقوانين الدولية، وبالتالي لا يمكن النظر إلى ما يدعيه عباس والسلطة بشأن "الرجم" إلا من باب تشويه صورة الشيخ في قلوب الملايين من الجماهير التي تحترم آراءه داخل فلسطين وخارجها، أو إشغال الناس بقضايا مفبركة وإسباغ الإثارة عليها في محاولة للتغطية على سوء أفعالهما.
إن منهج القرضاوي- وهكذا يفترض في كل العلماء المجتهدين العاملين لدينهم- أن يدلي بآرائه الشرعية والفتاوى في المسائل المستجدة سواء صدرت من هنا أو هناك طالما أنها تهم الأمة، وكان من آخر فتاواه اعتباره "الجدار الفولاذي محرما شرعا"، ورأى أن ما تفعله مصر هو بمثابة "قتل بالترك لأهالي غزة"، وهو حبس إنسان شخصا في منزله وتركه ليموت لعدم توافر الأشياء اللازمة لبقائه حيا، وشدد القرضاوي على "أن واجب مصر تجاه أهالي غزة هو تقديم المساعدات لهم علنا بحكم أنها الشقيقة الكبرى، لا أن تخنقهم".
ومن الأخطاء التي ترتكبها السلطة ومعها أنظمة عربية داعمة هي تعاملهم مع الجانب الإسرائيلي بقناعة أن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، وأن السلام خيار إستراتيجي لا بديل عنه، كما يشير القرضاوي إلى ذلك، وبالتالي فإن الهوة بينه وبين السلطة ومن يساندها كبيرة.
وفي هذا الإطار نفهم سلوك السلطة المماثل لما يتعرض له الشيخ- ومعها فتح- مع كل من الذين لا يتفقون ووجهة نظرها،أو الذين يقومون بتغطيات إعلامية أو اتصالية تتضمن نقدا لسياساتها وأدائها، وفي مقدمتهم قناة الجزيرة على وجه الخصوص، ووسائل إعلام قطرية على وجه العموم، وها هي أبواقها تنشر في هذه الفترة دعايات تحريضية ضدها، تمتلئ بالأكاذيب والأمور المختلقة، ومنها إبراز عبارات مختلقة كتبت على لوحات خارجية: "نحن الفلسطينيين نستنكر عرض بيع 50% من أسهم قناة الجزيرة القطرية على رجل إعمال إسرائيلي"!!.
إن للقرضاوي مكانة راسخة في قلوب الناس بوصفه شيخ الأقصى والمقاومة، وسيكتشف الحمقى ممن يحاولون النيل منه أنهم لن يجنون سوى البوار والخسران وخيبة الأمل.
أيها الشيخ الجليل لا تبتئس بما يصنعون، فقد ابتلي قبلك بأراجيف المرجفين وإشاعات المغرضين والحملات الدعائية المفبركة الرسل والصحابة والصالحون من عباد الله، دون أن يستطيعوا حجب نور الحقيقة وبرهانها الساطع.
........
- المصدر: صحيفة الشرق القطرية.