السؤال: قد ورد الخبر التالي في جريدة "الأخبار" المصرية، العدد رقم 6774 بتاريخ 13صفر1394هـ الموافق 7مارس 1974م، الصفحة الخامسة، العامود الأول:

نص الخبر: ظاهرة غريبة في جنازة شيخ بإحدى قرى دمياط.

ظاهرة غريبة حدثت في قرية الناصرية بدمياط أمس. رفض الأهالي تنفيذ وصية الشيخ محمد الجمل الشهير بأبو فراخ، بدفنه عند وفاته في مكان يبعد عن مقابر القرية بحوالي 3كيلو مترات، ولكنهم عندما قاموا بتشييع جنازته أمس، فوجئوا بالنعش يستدير بحامليه، ويجذبهم إلى مزرعة قمح. أخطر الأهالي رجال الشرطة، فأسرعت قوة على رأسها مأمور مركز (فارسكور) وحاولوا رفع النعش من مكانه دون جدوى. اضطر الأهالي إلى إقامة ضريح للشيخ في نفس المكان، وتم دفن الجثمان فيه. ومما يذكر أن هذا الشيخ يبلغ من العمر 90 سنة. وقد رحل من قريته الأصلية (طهطا) بسوهاج وأقام بقرية الناصرية منذ 30 عاما.

انتهى الخبر المنشور.

أرجو التفضل بالإفتاء كتابة، مبينا وجهة نظر الدين. وما هو الحكم بالنسبة للزرع الذي تلف بفعل المتسببين، ومنهم حاملو النعش. وحكم الضريح الذي أقيم على أرض لا يملكها المتوفى أو من قاموا بدفنه، وحكم المسجد الذي أقامه المتسببون على غير إذن من المالك للأرض. وهل لمالك الأرض أن يزيل الضريح الذي بني؟

أرجو التفضل بالإفادة كتابة حتى تطمئن قلوب مؤمنة بالله، وحتى لا تضيع حقوق على أصحابها.

وفقكم الله وسدد خطاكم.

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله، وبعد:

لقد كان أهالي القرية على حق حين رفضوا تنفيذ وصية الشيخ بأن يدفن في مكان ما، على بعد ثلاثة كيلومترات من البلدة. وذلك لأن هذه الوصية باطلة لا يجوز تنفيذها. لما فيها من مخالفات عديدة للشريعة وللسنة.

أما أولاً: فلأنه أوصى بأن يدفن في أرض ليست ملكا له، وليست مواتا، ولا موقوفة على الدفن. بل هي مملوكة لبعض الناس، الذي يستخدمونها بالفعل في الزراعة. ولو كان هذا الشيخ على شيء من العلم، ما سمح لنفسه بهذه الوصية الجائرة، التي تتضمن العدوان على ملك الغير بغير حق.

وأما ثانياً: فلما تحويه الوصية من نزعة إلى التميز عن سائر المسلمين، بحيث لم يرض الموصي لنفسه أن يدفن في مقابر الناس، وحرص على أن يدفن بعيدا عنهم، في مقبرة مستقلة. مع أن الموت سوى بين الجميع، فلماذا التمييز في المقابر؟. وهذه النزعة لم تعرف عند السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، فقد كانوا يدفنون مع غيرهم من المسلمين، ولم يعرف الاتجاه إلى التمييز في المقابر إلا بعد شيوع البدع، والانحراف عن هدى السلف.

وأما ثالثاً: فلأنه كلف الناس أن يحملوه من القرية إلى هذا المكان القصي، وما كان له أن يجشمهم هذه المشقة بغير مسوغ.

أما ما ذكر من حكاية النعش واستدارته بحامليه، وجذبهم قهرا ورغم أنوفهم إلى مزرعة قمح..الخ. فهذه حكايات يتناقلها العوام عادة في القرى، عندما يموت أحد "المشايخ" الذين يعتقدون بصلاحهم أو ولايتهم. ويعتبرون ذلك دليلا على أن الميت من أولياء الله الصالحين.

ولا أدري من أين حكموا للميت بذلك. ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أو التابعين أن نعشه طار به، أو استدار بحامليه إلى حيث يريد هو (أي الميت) قسرا عن حامليه، ولا يستطيع أحد أن يزعم أن مشايخ زماننا هذا أفضل من الصحابة وتابعيهم بإحسان.

وتفسيري لهذه الظاهرة أن وراءها أحد العوامل الآتية:

1-أن يكون هذا عن عمد وقصد من حملة النعش أو أكثرهم، ممن لهم صلة بالميت، وثقة به، ويريدون أن يثبتوا له كرامة، ويروجوا ذلك في الناس، مما قد يعود عليهم بعد ذلك بمنافع مادية أو أدبية.

2- وقد لا يكون ذلك عن قصد منهم، وإنما فعلوا ذلك مدفوعين إلى حيث أوصى الميت بطريق "الإيحاء" الذي لا يخفى على دارس مبلغ تأثيره في النفس والسلوك، حتى إنه يحدث أحيانا تغيرات عضوية ليس لها أدنى سبب إلا مجرد الاعتقاد والتوهم، ولا غرو إذا انتقل مثل هذا الإيحاء إلى رجال الشرطة أنفسهم، وبخاصة الجنود الذين هم جزء من العامة.

3- ولا يبعد أن يساعد على ذلك بعض مردة الجن والشياطين، الذين يريدون أن يضللوا السطحيين من الإنس بمثل هذا العبث، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية صورا كثيرة من هذا الجنس.

والعجيب أن مثل هذه الحكايات والأساطير لا نسمع بها إلا في أوساط معينة، وخاصة في القرى؛ وإلا فلماذا لم نسمع شيئا من ذلك في المملكة العربية السعودية أو في قطر مثلا وقد عشت فيها بضعة عشر عاما؟! أما ما أصاب صاحب المزرعة من أضرار، نتيجة لإقامة ضريح في أرضه بغير إذنه، مما سبب اتلاف بعض الزرع القائم، وتعطيل جزء من الأرض عن الزراعة. فمن حقه أن يطالب المتسببين والسلطة معهم بتعويضه عما تلف من قمحه أولا، وبإزالة آثار هذا الغصب والعدوان على ملكه الشرعي ثانيا.

ذلك أن القاعدة الشرعية القطعية التي ثبتت بآيات عديدة من القرآن، وبصريح الحديث النبوي، وباستقراء أحكام الشريعة، واتفق عليها أئمة المذاهب كافة: أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام؛ فلا يجوز لمواطن في دار الإسلام -مسلما كان أو ذميا- أن يضار في نفسه أو ماله بغير حق عليه، ولا ذنب جنته يداه، وإذا حدث ذلك يجب أن يزال الضرر بقدر الإمكان، وفقا لقاعدة "الضرر يزال".

ولا يقال: إن إزالة الضرر عن صاحب الأرض لا تتحقق إلا بضرر آخر وهو إزالة القبر، وإيذاء الميت، وقد قرر الفقهاء أن الضرر لا يزال بالضرر لأننا نقول: إن الفقهاء قرروا أيضا أن الضرر الأدنى يحتمل من أجل دفع أو إزالة ضرر أعلى، وكذلك الضرر الخاص يحتمل من أجل دفع الضرر العام.

وهنا الضرر الواقع على الحي أهم وأعظم من الضرر الواقع على الميت، لأن الميت لا يضره أن تنقل عظامه من مكان إلى آخر، وقد أجازوا نبش القبر لما هو دون ذلك. ولا سيما إذا كان الميت هو المتسبب في ذلك حين أوصى بما لا يحل له، واستباح ملك القبر بغير حق.

على أن هناك ضررا عاما متوقعا من بقاء مثل هذا الضريح بهذه الصورة، وهو اعتقاد العوام قداسة صاحبه، وإشاعة الخوارق والكرامات عنه، واستغلال ذلك لجذب البسطاء والمخدوعين إلى زيارته والتمسح به وإيقاد الشموع والسرج عليه، ونذر النذور له، وذبح الذبائح على اسمه، إلى غير ذلك من المنكرات التي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعليها، واعتبرها ضربا من الشرك.

ولذا كانت إزالة هذا الضريح الذي أسس بنيانه من أول يوم على غير تقوى من الله ورضوان أمرا مشروعا، بل واجبا لمن فقه عن الله ورسوله مرادهما. وحسبنا في هذا قصة "مسجد الضرار" التي سجلها القرآن الكريم كما سيأتي. أما المسجد الذي بني على الضريح بغير إذن أصحاب الأرض، وبغير حاجة إليه لبعده عن القرية ثلاثة كيلومترات كما جاء في السؤال، فإن الصلاة فيه حرام لوجهين:

الأول: أن الفقهاء أجمعوا على النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة -نهي تحريم أو كراهة- زجرا للغاصب عن غصبه، وإعلانا للسخط عليه، بل منهم -كالحنابلة والظاهرية- من قال ببطلان الصلاة في تلك الأرض، لما تقرر عندهم من أن النهي يقتضي الفساد والبطلان. ولحديث (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) (رواه مسلم) أي مردود عليه، غير مقبول منه.

الثاني: أن الأحاديث النبوية الصحيحة جاءت تنهى عن اتخاذ المساجد على القبور، وتلعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وتحذر مما صنعوا؛ ولهذا قرر المحققون أن الطارئ منهما على الآخر يزال، فإن كان المسجد قد بني أولا ثم طرأ عليه القبر أزيل القبر، وإن كان الأمر بالعكس أزيل المسجد الذي لم يبن على تقوى من الله ورضوان.

وبهذين الوجهين لم يعد لهذا المسجد حرمة، وشأنه شأن مسجد الضرار الذي قص علينا قصته في سورة "التوبة" من كتابه العزيز فقال: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المتطهرين. أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين).

وكان أصحاب مسجد الضرار من المنافقين قد أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه!! فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل. ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه. فلما نزل بذي أوان -موضع في الطريق إلى المدينة من تبوك- وجاءه خبر المسجد من السماء، فدعا رجلين من أصحابه، وقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه ففعلا وأشعلا فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه، وفيه أهله. فحرقاه وهدماه فتفرقوا عنه، فأنزل الله فيه ما أنزل من الآيات، وقد ذكر المحقق ابن القيم فيما يؤخذ من هذه القصة أمرين:

أولهما: مشروعية تحريق أماكن المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها. كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه، ويذكر اسم الله فيه، لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا ومأوى للمنافقين المحاربين لله ورسوله. وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله: إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له.

قال: وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله أحق من ذلك وأوجب، وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات، وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر بن الخطاب قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت "رويشد" الثقفي وسماه "فويسقا".

الثاني: أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة. كما لا يصح وقف هذا المسجد.

قال: "وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد. نص على ذلك الإمام أحمد وغيره. فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر. بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق. فلو وضعا معا لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا يصح الصلاة في هذا المسجد، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا، أو أوقد عليه سراجا. فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى".(زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص35-36 ط السنة المحمدية)

فليت شعري إذا كان هذا الحكم في مسجد بني على قبر على سبيل الوقف أي برضا الواقفين، الذين يظنون الثواب فيما فعلوا وهم جاهلون، فماذا يكون الحكم في مسجد وقبر بنيا في أرض مملوكة للغير بغير إذنه ولا رضاه؟ إننا إذا وجدنا من الناس من يجادل في الصورة الأولى، فلن نجد من يجادل في الصورة الأخرى، لأنها واضحة البطلان. والحق أحق أن يتبع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وبالله التوفيق.