السؤال: من الأحاديث المشتهرة على الألسنة والأقلام: حديث "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
فما مدى صحة هذا الحديث من ناحية؟ وما المراد به؟ وهل كلمة "غريبًا" من الغُربة أو من الغَرابة؟ فقد سمعت بعض المتحدثين في "الإذاعة" يؤكد أنها من "الغرابة والدهشة" وينفي أن يكون من "الغربة".
وإذا كان من الغربة كما هو الشائع والمتبادر، فهل يعني هذا ضعف الإسلام وأفول نجمه؟ وهل هناك دلائل على انتصار الإسلام مرة أخرى كما انتصر في القرون الأولى للهجرة؟
جواب فضيلة الشيخ:
الحمد لله، والصلاة والسلام علي رسول الله، وبعد:
الحديث صحيح الإسناد بلا نزاع من أهل هذا الشأن، وهو مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
فقد رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة، والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود، وابن ماجه عن أنس، والطبراني عن سلمان وسهل بن سعد، وابن عباس -رضي الله عنهم جميعًا- كما في الجامع الصغير. وقد رواه مسلم عن ابن عمر دون جملة "فطوبى للغرباء".
بهذا نعلم أن صحة الحديث لا كلام فيها، وبقي الكلام في معناه. ومن المؤسف أن كثيرًا من الأحاديث المتعلقة بـ "آخر الزمان" أو ما يسمى "أحاديث الفتن" و"أشراط الساعة" يفهمها بعض الناس فهمًا يوحي باليأس من كل عمل للإصلاح والتغيير.
ولا يُتصور أن يدعو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الأمة إلى اليأس والقنوط، وترك الفساد يستشري في الناس، والمنكرات تنخر في عظام المجتمع، دون أن يصنع الناس شيئًا، يُقوِّم ما اعوج، أو يصلح ما فسد! وكيف يُتصور ذلك وهو صلى الله عليه وسلم يأمر بالعمل لعمارة الأرض، إلى أن تلفظ الحياة آخر أنفاسها؟!، كما يتضح ذلك من الحديث الشريف: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم - أي الساعة - حتى يغرسها؛ فليغرسها" (رواه أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس، وكذا الطيالسي والبزار، وقال الهيثمي: رواته ثقات أثبات).
ومعنى هذا أنه لن يأكل من ثمر هذا الغرس ولا أحد من بعده ما دامت الساعة قد قامت، أو توشك أن تقوم. فإذا كان هذا مطلوبًا في أمر الدنيا؛ فأمر الدين أعظم وأجل، ولا بد من العمل من أجله إلى آخر رمق في هذه الحياة.
أما معنى كلمة "غريبًا" فالمتبادر أنها من "الغربة" لا من "الغرابة"؛ بدليل آخر الحديث "فطوبى للغرباء"، فالغرباء هنا جمع "غريب"، والمراد به المتصف بالغربة لا الغرابة.
وإنما كانت غربتهم من غربة الإسلام الذي يؤمنون به ويدعون إليه، وهذا هو المعنى المفهوم من كلمة "غريب" في أكثر من حديث مثل: "كن في الدنيا كأنك غريب" رواه البخاري. كما جاءت جملة أحاديث وروايات فيها زيادات في هذا الحديث، في وصف "الغرباء" مما يؤكد أن المقصود هو الغربة لا الغرابة.
هذا إلى أن الواقع اليوم وفي عصور خلت، يدل على غربة الإسلام في دياره ذاتها، وبين أهله أنفسهم. حتى إن من يدعو إلى الإسلام الحق يعاني الاضطهاد والتنكيل أو الشنق أو الاغتيال.
ولكن هل هذه الرغبة عامة وشاملة ودائمة أو غربة جزئية ومؤقتة؟ فقد تكون في بلد دون آخر، وفي زمن دون آخر، وبين قوم دون غيرهم، كما ذكر ذلك المحقق ابن القيم رضي الله عنه.
والذي أراه أن الحديث يتحدث عن "دورات" أو "موجات" تأتي وتذهب وأن الإسلام يعرض له ما يعرض لكل الدعوات والرسالات من القوة والضعف، والامتداد والانكماش، والازدهار والذبول، وفق سنن الله التي لا تتبدل. فهو كغيره خاضع لهذا السنن الإلهية، التي لا تعامل الناس بوجهين، ولا تكيل لهم بكيلين، فما يجري على الأديان والمذاهب يجري على الإسلام، وما جرى على سائر الأمم يجري على أمة الإسلام.
فالحديث ينبئ عن ضعف الإسلام في فترة من الفترات، ودورة من الدورات، ولكنه سرعان ما ينهض من عثرته، ويقوم من كبوته، ويخرج من غربته، كما فعل حين بدأ.
فقد بدأ غريبًا، ولكنه لم يستمر غريبًا، لقد كان ضعيفًا ثم قوي، مستخفيًا ثم ظهر، محدودًا ثم انتشر، مضطهدًا ثم انتصر، وسيعود غريبًا كما بدأ، ضعيفًا ليقوى ثم يقوى، مطاردًا ليظهر ثم يظهر على الدين كله، ملاحقًا مضطهدًا لينتشر وينتشر ثم ينتصر وينتصر. فلا دلالة في الحديث على اليأس من المستقبل إن أحسنا فهمه.
ومما يدل على أن الحديث لا يعني الاستسلام أو اليأس، ولا يدعو إليه بحال، ما جاء في بعض الروايات من وصف لهؤلاء "الغرباء" من أنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، ويحيون ما أماته الناس منها. فهم قوم إيجابيون بناؤون مصلحون، وليسوا من السلبيين أو الانعزاليين أو الاتكاليين، الذين يدعون الأقدار تجري في أعنتها، ولا يحركون ساكنًا، أو ينبهون غافلًا.
ومن المفيد أن أنقل هنا ما كتبه الإمام ابن القيم حول هذا الحديث، عند شرح كلام شيخه الهروي في باب: "الغربة" من "منازل السائرين" إلى مقامات "إياك نعبد وإياك نستعين" فقال رحمه الله في "مدارج السالكين":
قال شيخ الإسلام: "باب الغربة" قال الله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} (هود: 116) قال ابن القيم معلقًا وشارحًا: (استشهاده بهذه الآية في هذا الباب؛ يدل على رسوخه في العلم والمعرفة، وفهم القرآن، فإن الغرباء في العالم: هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية. وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، قيل: ومَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون إذا فسد الناس" (أورده الهيثمي في: مجمع الزوائد من حديث سهل بن سعد الساعدي، بنحوه وقال: رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح، غير بكر بن سليم وهو ثقة 7/278، ومن حديث جابر وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف وقد وثق 7/278)، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زهير عن عمرو بن أبي عمرو - مولى المطلب ابن حنطب- عن المطلب بن حنطب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى للغرباء"، قالوا: يا رسول الله: ومن الغرباء؟ قال: "الذين يزيدون إذا نقص الناس" (بحثت عن الحديث في مظانه في المسند فلم أجده، وكذلك لم أجده في: مجمع الزوائد للهيثمي، ولا أشار إليه في المعجم المفهرس للكتب التسعة، بل لم أجد المطلب بن حنطب ضمن الصحابة الرواة في المسند، وفقًا لفهرس الشيخ الألباني. فإما أن يكون ساقطًا من المطبوع - كما تبينت ذلك مع عقبة بن مرة الجهني، فإن له ثلاثة أحاديث في المسند، ليس في المطبوع إلا واحد منها - أو يكون أحمد رواه خارج المسند، والله أعلم).
فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظًا - لم ينقلب على الراوي لفظه وهو: "الذين ينقصون إذا زاد الناس" فمعناه: الذين يزيدون خيرًا وإيمانًا وتقىً إذا نقص الناس من ذلك، والله أعلم
وفي حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "النُّزَّاع من القبائل" (الحديث في الدارمي برقم -2757- وابن ماجه برقم -3988- والترمذي برقم -2631- بدون السؤال وقال: حسن غريب صحيح، والبيهقي في الزهد برقم -208- والبغوي في شرح السنة، وصححه 1/118 حديث -64- نشر المكتب الإسلامي).
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم ونحن عنده: "طوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" (الحديث في المسند وصححه الشيخ شاكر، كذا أورده الهيثمي 7/278، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف. وذكره في موضع آخر جزءًا من حديث، وعزاه إلى الطبراني في الكبير، وقال: له فيه أسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح 10/256).
وقال أحمد: حدثنا الهيثم بن جبل حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عثمان بن عبد الله عن سليمان بن هرمز عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أحب شيء إلى الله الغرباء". قيل: ومن الغرباء؟ قال: "الفرارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى بن مريم -عليه السلام- يوم القيامة" (رواه أحمد في الزهد ص77، وليس في المسند، كما رواه البيهقي في الزهد برقم -206).
وفي حديث آخر "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، كما بدأ، فطوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس" (رواه البيهقي في الزهد من حديث كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده وهو ضعيف جدًا، رقم-207- كما رواه الترمذي برقم -2632-، وقال: حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح!! ولفظه: "فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي" وهذا مما أخذه عليه النقاد، ولعله حسنه أو صححه لكثرة شواهده).
وقال نافع عن مالك: "دخل عمر بن الخطاب المسجد. فوجد معاذ بن جبل جالسًا إلى بيت النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو يبكي، فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ هلك أخوك؟ قال: لا، ولكن حديثًا حدثنيه حبيبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنا في المسجد، فقال: ما هو؟ قال: "إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدي، يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة" (الحديث بنحو هذا اللفظ عند ابن ماجه -3986-، وضعفه في الزوائد بابن لهيعة، ورواه الحاكم بسند آخر، وقال: صحيح ولا علة له عن زيد بن أسلم1/4، وانظر: كتابنا: المنتقى من الترغيب والترهيب حديث رقم -19- ورواه البيهقي في الزهد بسند آخر، برقم -197- عن ابن عمر).
فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدًا: سُمّوا "غرباء" فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة - الذين يميزونها من الأهواء والبدع - فيهم غرباء. والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين: هم أشد هؤلاء غربة. ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا، فلا غربة عليهم. وإنما غربتهم بين الأكثرين، والذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116)، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه. وغربتهم هي الغربة الموحشة. وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم. كما قيل:
فليس غريبًا من تناءت دياره ** ولكن من تنأين عنه غريب
ولما خرج موسى -عليه السلام- هاربًا من قوم فرعون انتهى إلى مدين، على الحال التي ذكر الله، وهو وحيد غريب خائف جائع، فقال: "يا رب، وحيد مريض غريب. فقيل له: يا موسى، الوحيد: من ليس له مثلي أنيس. والمريض: من ليس له طبيب. والغريب: من ليس بيني وبينه معاملة".
فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به: أنه "بدأ غريبًا" وأنه "سيعود غريبًا كما بدأ"، وأن "أهله يصيرون غرباء".
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه "الغربة" هم أهل الله حقًا؛ فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم، فيقال لهم: "ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس، ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده".
فهذه "الغربة" لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
وفي حديث القاسم عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال - عن الله تعالى: "إن أغبط أوليائي عندي: لمؤمن، خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاته. أحسن عبادة ربه، وكان رزقه كفافًا، وكان مع ذلك غامضًا في الناس لا يُشار إليه بالأصابع، وصبر على ذلك حتى لقي الله. ثم حلت منيته (نص الترمذي: ثم نفض بيده فقال: عجلت منيته.. إلخ والمراد بقوله: "أغبط الناس: أحق من يتمنى الناس مثل حاله، و"خفيف الحاذ": أي خفيف الظهر من العيال، "كفافًا": أي بقدر الحاجة، "لا يشار إليه بالأصابع": أي أنه مغمور غير مشهور، ومعنى "عجلت منيته": أنه لم يعمر طويلًا، فقد يُصاب أو يستشهد في سبيل الله، "قل تراثه": لم يترك مالًا كثيرًا، "قلت بواكيه": ربما لموته في الغربة. وقل تراثه وقلت بواكيه" (رواه الترمذي في الزهد -2348- من طريق عبد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم، وهو إسناد ضعيف، وإن حسنه الترمذي، كما رواه ابن ماجه بنحوه بإسناد آخر -4117- وفيه راويان ضعيفان كما في الزوائد).
ومن هؤلاء الغرباء: من ذكرهم أنس في حديثه عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "رُب أشعث أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره" (أورده الهيثمي بنحوه في المجمع 10/264، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن موسى التميمي وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح، عدا جابر بن هرم، وقد وثقه ابن حبان على ضعفه، وأورد نحوه من حديث ابن مسعود، وإسناده أجود وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" الحديث رقم -2622).
وفي حديث أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "كل ضعيف أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره" (رواه ابن ماجه -4115- وفيه سويد بن عبد العزيز، ضعفوه، وحسنه بعضهم لشواهده. انظر: فيض القدير: حديث -2852) وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب.
ومن صفات هؤلاء الغرباء، الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم - فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم!
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هم النزاع من القبائل" أن الله سبحانه بعث رسوله، وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان ونيران، وعباد صور وصلبان، ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبًا، وكان من أسلم منهم، واستجاب لله ولرسوله: غريبًا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته.
فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعًا من القبائل، بل آحادًا منهم، تغرَّبوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباء حقًا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته، ودخل الناس فيه أفواجًا. فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريبًا كما بدأ. بل الإسلام الحق - الذي كان عليه رسول الله وأصحابه - هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة. فالإسلام الحقيقي غريب جدًا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس.
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدًا، غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات، ومناصب وولايات، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم.
فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبًا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجب كل منهم برأيه؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، فإن وراءكم أيامًا، الصابر فيهن كالقابض على الجمر"؛ ولهذا جُعل للمسلم الصادق في هذا الوقت - إذا تمسك بدينة - أجر خمسين من الصحابة (وهذا يقوي قول الحافظ ابن عبد البر في أن تفضيل قرن الصحابة تفضيل للمجموع لا لكل فرد، باستثناء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأهل بدر وأهل أحد، وأهل بيعة الرضوان، ومن كان له فضيلة خاصة من الصحابة؛ وهذا يفتح باب الأمل للأجيال اللاحقة، ويؤيده حديث الترمذي: "مثل أمتي كمثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره").
ففي سنن أبي داود والترمذي - من حديث أبي ثعلبة الخشني - قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله"، قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم" (رواه أبو داود في الملاحم برقم (4341)، والترمذي في التفسير برقم (3060) وقال: حسن غريب، وابن ماجه في الفتن (4014)، وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم.
فإذا أراد المؤمن، الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقهًا في سنة رسوله، وفهمًا في كتابه، وأراه ما الناس فيه: من الأهواء والبدع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم، الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط: فليوطن نفسه على قدح الجهال، وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه (في عصرنا دخل عنصر يزيد من غربة المؤمنين الداعين إلى الله، وإلى كتابه وسنة نبيه، وهو اضطهاد السلطات الحاكمة لهم، ومطاردتها لهم، واستخدام كل ما تملك من قوة لإيذائهم والتضييق عليهم، والتنكيل بهم، إلى حد القتل علنًا برصاص الشرطة في الطرقات أو البيوت، أو سرًا تحت أدوات التعذيب وفي غيبة القانون ثم كيد القوى المعادية للإسلام وما أكثرها عددًا، وأقواها عدة). كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه -صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله.
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم.
وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعدًا ولا معينًا، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، بين قوم المعروف لديهم منكر، والمنكر معروف) (مدارج السالكين شرح منازل السائرين لابن القيم 1/194-200، ط. السنة المحمدية).