متابعتي بعقلي وقلبي صحوة الجزائر الهائلة:

كنت مع بعد جسمي عن الجزائر، أتابع ما يجري فيها بعقلي وقلبي، أفرح لما يفرحها، وأحزن لما يحزنها، فقد كنت أرى نفسي مِمّن شاركوا مع شيخنا الغزالي، في صنع صحوتها الهائلة، التي هدمت ما بناه الاستعمار في قرن وثلث القرن من الزمان، وأنشأت جيلًا جديدًا من المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، وبالشريعة مرجعًا ومنهاجًا... فكنت أخاف على هذه الصحوة أن تضيع ثمراتها بين غلو بعض الإسلاميين، وطغيان بعض العسكريين «جنرالات فرنسا كما يسمونهم»، وتسيُّب بعض الفرنكفونيين، وأطماع بعض الغربيين، الذين عزَّ عليهم أن تفلت الجزائر من قبضتهم، وتعود إلى أصالتها، وترجع إلى الإسلام بقوة.

متابعة أحداث الجزائر المؤلمة:

كنت أتابع الجزائر وأحداثها، وأتألم لآلامها، وما يسفك فيها من دماء، وما يحدث فيها من فتن ومذابح، لا يدري من المسئول عن إشعال نارها: أهي السلطة ورجال الأمن والجيش؟ أم هي الجماعات المسلحة التي تنتمي إلى الإسلام؟ فقد اختلط الحابل بالنابل، ووقع من الفظائع ما تقشعر من هوله الأبدان، وما تشيب لشناعته الولدان، من قتل الأطفال والنساء والشيوخ ومن لا ناقة له ولا جمل في السياسة ولا في الجهاد.

القتال بين الإسلاميين:

وكان أشدّ ما آلمني واعتصر قلبي من الأسى والأسف: أن يقتل الإسلاميون بعضهم بعضًا، بمجرَّد الظنون والشبهات، مع أن الأصل في النفوس هو العصمة، والأصل في الدماء هو الحرمة، ولا يباح قتل امرئ مسلم إلا ببينة ظاهرة، تقطع الشك باليقين، فليست استباحة دماع الناس بالأمر الهين، وقد قرر القرآن مع كتب السماء: أنه {مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا} [المائدة: 32] وقال الرسول الكريم: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق»(1).

تحسُّري وإنكاري على قتل الأخ محمد أبو سليماني:

ولهذا ذهبت نفسي حسرات، وذرفت عيني عبرات، حين سمعت نبأ قتل الأخ الداعية الصالح، والمسلم الملتزم، ذي الخلق الكريم، والسلوك المستقيم: الشيخ محمد أبو سليماني نائب الشيخ محفوظ نحناح زعيم حركة المجتمع المسلم «حماس»، والذي يشهد له الإسلاميون جميعًا في الجزائر بحُسْن السيرة، وطهارة السريرة، واستقامة المسيرة.

ولقد عبَّرت عن فيض مشاعري برسالة تقطر أسى وحزنًا وإشفاقًا على الجزائر، أرسلتها إلى الإخوة هناك، ونشرتها الصحف المعنية، تتضمَّن مواساة وتعزية من ناحية، وتتضمن إنكارًا وغضبًا للحادثة من ناحية ثانية، كما تتضمن نصيحة وتوجيهًا وتحذيرًا من ناحية أخرى.

وبعد مدة قليلة فاجأتنا الصحف وأجهزة الإعلام بنبأ اغتيال الأخ الكريم، والداعية الصالح، والصحفي الملتزم، الشيخ لَحْسن بن سعد الله النائب الثاني لرئيس جمعية الإصلاح والإرشاد، الذي اغتيل أمام داره بست رصاصات قضت عليه في الحال.

وقد أرسلت إلى الإخوة في الجزائر نداء بمناسبة هذه الفاجعة، أدعوهم إلى أن يتّقوا الله في أنفسهم وإخوانهم، وأن يكفّوا عن سفك دمائهم بعضهم بعضًا، فهذا من عمل الجاهلية التي أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم  في خطبة الوداع ألاّ نعود إليها: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»(2).

التقائي لطفي الخولي
12/11/1991م

من الشخصيات التي لقيتها في تلك الفترة ممن زاروا قطر: الكاتب اليساري المعروف، الأستاذ لطفي الخولي، الذي يكتب في الأهرام باستمرار.

ندوة في تليفزيون قطر:

وقد أراد تلفزيون قطر: أن نلتقي أنا وهو في ندوة حول القضية الفلسطينية. وقد التقينا قبل الندوة وتعارفنا باعتبارنا «بلديات» كما يقول المصريون، فهو من قرية القرشية، وأنا من صفط تراب، وبينهما عدة كيلومترات. كما أنَّ بيننا صلة أخرى، وهي: أن أستاذنا البهي الخولي، يعتبر عم لطفي. وقد حدَّثني أنه التقى عمه عدة مرات، واستمع إليه، وأعجبته نظرته العميقة إلى الدين ودوره في الحياة، ولا سيما الجانب الروحي فيه، وأنه لا ينظر إلى الدين نظرة سطحية تهتمّ فيه بالشكل دون الجوهر، كما نرى للأسف عند كثير من علماء الدين.

قلت له: وله رؤية أخرى في النظر إلى الجانب الاقتصادي، وفيها: ألف كتبه: «الثروة في ظل الإسلام»، «الإسلام لا شيوعية ولا رأسمالية»، وكتابه «الاشتراكية بين النظرية والتطبيق».

الإيمان بالربوبية فطرة بشرية:

وفي الندوة تعرّضنا للشيوعية وموقفها من قضية الألوهية، وأنها تقول: لا إله، والحياة مادة. وقلت فيها: إن الإيمان بالألوهية فطرة بشرية. تشترك فيها كل أمم، كما قال أحد المؤرخين: قد وُجدت في التاريخ مدن بلا قصور، ومدن بلا حصون، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد!

وذكرت له قصة أحد المصريين الذين تعلَّموا في أوربا، ثم عاد ليعلن على الناس: أنه ملحد، فقال له بعض الحضور: لا نصدقك، أنت تخدع نفسك. فقال لهم في حماسة: والله العظيم أنا ملحد!

وقد أُعجب الخولي بهذه الحكاية، فكان يردِّدها بعد ذلك في كل مناسبة.

أهمية الدين في المعركة بيننا وبين اليهود:

وفي الندوة اختلفنا في قضية مهمة فيما يتعلق بفلسطين، وهي: مدى أهمية الدين في المعركة بيننا وبين اليهود. فكان هو يرى أن الأهمية للإعداد العلمي والتكنولوجي، ونقل العرب إلى التقدم.

وقلت له: أنا أول الداعين إلى ذلك كله، وأراه فريضة وضرورة، ولكن للدين في أمتنا أهمية كبرى، فهو الذي يعطي الفرد الحوافز، وهو الذي يحرِّض على التضحية والبذل بلا تردّد ولا تخوف، وهو الذي يجمع القلوب على الهدف الكبير، ولا سيما في قضية فلسطين خاصّة، لأنها تتعلق بأرض لها حرمتها وقدسيتها عند المسلمين، أرض الإسراء والمعراج والمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله... ثم إنّ عدونا هنا يستخدم الدين بقوة وبراعة في هذه القضية، وعلى أساس عقيدة التوراة، ومفاهيم التلمود، جمع اليهود من أنحاء العالم إلى «أرض الميعاد» وما زال إلى اليوم يذيع فيهم: أنّ الهجرة واجبة دينيًا عليهم، وما زال للأحزاب الدينية سلطان فيهم، للحاخامات كلمة مسموعة. حتى العلمانيون منهم الذين لا يؤمنون بالدين، يؤمنون بضرورة توظيف الدين في المعركة مع العرب والمسلمين.

فلا يجوز أن يدخلوا المعركة معنا يهودًا، ولا ندخلها نحن مسلمين، ولا يجوز أن يقولوا: التوراة، ولا نقول نحن: القرآن. ولا يجوز أن يقولوا: الهيكل، ولا نقول نحن: الأقصى.

..................

(1) رواه الترمذي (1395) مرفوعًا وموقوفًا وقال بعد سند الموقوف: هذا أصح من الحديث المرفوع، والنسائي (3987) عن عبد الله بن عمرو، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب» (2439).

(2)  سبق تخريجه.