القرضاوي والبشير بمنصة الندوة |
دعا فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي-رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- فقهاء الأمة وقيادتها لمواجهة الظلم الواقع على أبناء فلسطين المحتلة عموما وغزة المحاصرة على وجه التحديد، مشيرا إلى أن ما يحدث الآن ما هو إلا بلطجة إسرائيلية مدعومة بالسلاح والفيتو الأمريكيين، ومنبها إلى أنه على جميع المسلمين التكاتف حيال ذلك وإمداد إخوانهم بكل ما يستطيعون المساهمة به من زكاة الأموال والصدقات التطوعية والوصايا وريع الأوقاف وغيرها من السبل، هذا بالإضافة إلى تفعيل سلاحي المقاطعة والدعاء.
جاء ذلك في إطار الندوة التي نظمها المركز العالمي للوسطية والتي حملت عنوان "الفقيه المسلم وقضايا العصر" مساء الاثنين 12/5/2008م، والتي تزامن انعقادها مع استقبال الكويت لعدد كبير من العلماء والفقهاء على رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي استعدادا لانعقاد الجمعية العمومية للهيئة الإسلامية الخيرية العالمية الثلاثاء 13/5/2008م بمقر الهيئة الدائم بالكويت.
في بداية المحاضرة قدم فضيلة الشيخ الشكر والعرفان لدولة الكويت التي وسعت واحتضنت هذه المؤسسة الكبرى "الهيئة الإسلامية الخيرية العالمية" التي أنشئت في بدايتها بهدف حماية المسلمين في شتى أنحاء العالم من محاولات التنصير المستمرة التي تقوم بها جهات متخصصة في هذا الشأن – على خلفية قيام مجموعة من المسيحيين البروتستانت في أواخر السبعينيات بإنشاء معهد زويمر للتنصير- ومقاومة المد الزاحف على العالم الإسلامي آنذاك بقوة، ثم توسعت في مناشطها لتشمل أوجها عدة من أوجه العمل الخيري ولتكون بادرة خير لظهور العديد من الهيئات والمؤسسات الفاعلة في حقل العمل الإسلامي بشتى جوانبه.
ومن ثم أكد القرضاوي على أن أمة الإسلام لا تزال بخير؛ فهي أمة ولود.. تلد أجيالا بعد أجيال، قد ينام جيل لكن تصحو أجيال وأجيال سواه، فهي الأمة الباقية الخالدة إلى يوم القيامة، وعندها من المبشرات ومن القرآن ومن السنة ومن التاريخ ومن سنن الله ما يملأ أتباع نبيها ثقة بأن هذه الأمة باقية، وقد استفاضت الأحاديث عن مجموعة من الصحابة بالطائفة المنصورة التي لا تزال قائمة بالحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ثم عرج على موضوع الندوة الذي قسمه إلى شقين وبدأ في الشق الأول بالحديث عن مصطلح "الفقيه المسلم"، وتساءل هل يختلف الفقيه المسلم عن العالم المسلم والداعية والمفكر؟ وأجاب بأن بين الفقيه والعالم عموم وخصوص كما يقول العلماء فكل فقيه عالم وليس كل عالم فقيها؛ فهناك عالم في التفسير أو الحديث أو التاريخ أو اللغة والأدب لكن الفقيه هو من اشتغل بأحكام الشريعة و"استنباط الأحكام الشرعية الجزئية من أدلتها التفصيلية"، نافيا معنى أن يكون الفقيه أفضل من عالم العقيدة أو التفسير أو غيرهما من العلوم إلا أن لكل منهما اختصاصا في ناحية مختلفة.
واستطرد: "أما الداعية فقد يكون فقيها.. لم لا ؟، بل قد يكون الفقيه داعية، لكن في الأغلب قد يكون الداعية مفوها محركا للقلوب مهيجا للمشاعر تلتف حوله الجماهير مؤثرا فيهم لكنه بعيدا كل البعد عن مجال الفقه وهو أقرب فيه لعموم الناس وتكمن المشكلة في أن الجماهير لا يفرقون بين تلك الأصناف؛ فيظنون الداعية الكبير فقيها كبيرا ويستفتونه في أمور حياتهم"،مشيرا إلى أن الأخطر أن يصدق الداعية الأمر ذاته ويظن نفسه على منزلة من الفقه تعادل منزلته من الدعوة، أما المفكر فهو شيء آخر بعيد عن الفقيه فقد يكون فيلسوفا له آراء في القضايا المختلفة مربوطة بعللها موصولة بأصولها وأهدافها".
وعليه "فالفقيه المسلم هو العالم المسلم الذي تهيأ له دراسة أحكام الشريعة ودراسة أدلتها -لأن الفقه هو حكم استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة أصلية أو تبعية- وأن يتهيأ للاستنباط بمؤهلات علمية".
الاجتهاد فريضةٌ وضرورةٌ
وأشار الشيخ إلى أن السابقين أطلقوا لفظ الفقيه على المجتهد لا العالم المقلد وان كان الناس الآن قد تساهلوا في ذلك فصار كل من اشتغل بالفقه فقيها، في حين أن الاجتهاد في عصرنا يعتبر فريضة يوجبها الدين وضرورة يحتمها الواقع؛ فلا بد من وجود مجتهدين في كل اختصاص يملئون الفراغ ويسدون الثغور ويلبون الحاجة في علوم الدين والدنيا بحيث تكتفي الأمة اكتفاء ذاتيا.
ونفى أن يكون في مقدورنا تطبيق الشريعة في عصرنا الحالي إذا ما لم يكن هناك اجتهاد فقهي فعلي يواكب العصر ومستجداته؛ فالقاعدة المجمع عليها أن الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان.
ثم انتقل القرضاوي للحديث عن الشق الثاني في محاضرته.. "قضايا العصر"، معرفا إياها بأنها القضايا التي يشتغل فيها كل عصر، ويتساءل الناس عنها.. ما الحكم فيها؟ وما الواجب حولها؟.
مؤهلاتٌ وركائز
وأوضح أنه لكي يخوض الفقيه معركة قضايا العصر لا بد وأن يُعد إعدادا علميا وفكريا وثقافيا يمكنه من فهم قضايا العصر.
وذكر أن مؤهلات المجتهد العلمية تتمثل في التمكن من اللغة إلى حد الرسوخ في علم العربية، ثم معرفة القرآن وعلومه، والسنة وعلومها، ثم معرفة الأصول، بالإضافة إلى معرفة أحوال الناس وطبائعهم ولا يمكن أن يعرف الفقيه الناس إذا لم يكن ملما بعلوم العصر والحياة.. من علوم كونية وطبيعية وحيوية.
وحذر من أن العالم إذا لم يكن ملما بهذه الأشياء قد ينكر البديهيات الواضحة، وعليه فمن المهم في معاهدنا وكلياتنا الشرعية أن نعد الفقيه الذي يتعامل مع هذا العصر ومعطياته وثوراته المتعددة؛ فهذه هي الركائز التي سيعتمد عليها، أما أن يعيش غائبا عن هذه الأشياء فهو ما لا يصح.
كما رأى القرضاوي أن مراعاة اختلاف الزمان والأحوال أمر بديهي يجب مراعاته؛ فمع أن التغيرات الحياتية والعلمية التي شهدتها العصور السابقة كانت طفيفة فإننا رأينا الاختلافات فيها بين الفقهاء واضحة رغم المدد الزمنية القليلة التي فصلت بينهم.. كما حدث بين أبي حنيفة وتلاميذه على سبيل المثال، أيضا اختلاف البيئات كما حدث مع الشافعي.
"لذلك فلا عجب الآن في أن يكون لعصرنا قضايا ينظر إليها على ضوء فقه الواقع والمقاصد والموازنات والمآلات والأوليات وفقه الضرورة والحاجة.. فهذه الأنواع من الفقه هي مرتكزات الفقيه المسلم عندما يتناول قضية من قضايا الطب والمال والاقتصاد والإعلام والبيئة والسياسة والتنمية... تلك القضايا التي تحتاج لاجتهادات يجب أن يتهيأ لها".
بين المقاصد والنصوص
إلا أنه عاد وشدد على ألا يحاول الفقيه إخضاع الشريعة للواقع؛ فالشريعة هي الأصل يجب ألا نحاول تغييرها لأجله أيا كان.. فالشريعة رحبة وواسعة ومرنة، ولا بد أن نوازن دائما بين النظر للمقاصد الكلية والنصوص الجزئية، فلا نجري وراء أدعياء الحداثة والعصرنة والتجديد، من يتركون النصوص الجزئية ويتمسكون بالمقاصد الكلية فقط، فالنصوص الجزئية هي نصوص صريحة الثبوت والدلالة فكيف نهملها؟!، ولا أن نتشبث بالنص على الجهة الأخرى وننسى المقصد كما فعل البعض.
فالفقيه المسلم لا يقيم حربا بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية بل يفهم النص الجزئي في إطار المقصد الكلي؛ حتى لا تتخذ علوم المقاصد ذريعة لتجاهل بل وإلغاء نصوص الشريعة، فالموازنة مطلوبة، وعلى الجهة الأخرى على الفقيه أن يتبنى فقه التيسير لا التعسير وهذا ليس مخالفا للشرع بل هو أصل ما جاء به الشرع {يريد الله بكم اليسر}، {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، {يريد الله أن يخفف عنكم}، وفي الحديث النبوي "بشروا ولا تنفروا"؛ فالمنهج الوسط للأمة.. هو الذي لا يميل.. هو الصراط المستقيم، وهو سنة من سنن الله في الكون والطبيعة، وهو معناه أن تضع خطة وهدفا وتضع للوصول لهذا الهدف مراحل تسلم كل واحدة فيها للأخرى.. فالتدرج في تطبيق الحكم الشرعي لا يقل أهمية عن كل ما سبق.
ثم أكد فضيلة الشيخ على أنه باستحضار الفقهاء لتلك الأمور لن تستعص بإذن الله عليهم مسألة من المسائل أو قضية من القضايا لأن هذه الشريعة أودعها الله عز وجل كل عوامل السعة والمرونة والخلود، لتصلح في كل زمان ومكان، وقد دخلت بلاد الحضارات منذ العصر الأول ولم تضق ذرعا بقضية واحدة، وكان لها مع كل حادث حديث ومع كل داء دواء، وردا على من يرى في الفقه رأي البشر وفي الشريعة حكم الله أوجز القرضاوي الرد بأن "الشريعة لا توجد إلا في داخل الفقه، ومن أراد أن يبحث عن الشريعة فليبحث عنها في داخله".
وقبل انتهاء المحاضرة وفي رد من سؤال أحد الحضور حول دور الفقيه في ما يحدث من حصار لغزة أجاب القرضاوي بأن دور الفقيه كدور الأمة كلها.. فهو حصار ظالم ومنكر يجب أن تقوم الأمة كلها في وجهه.. إلا أن دور الفقيه تحديدا ربما هو قيادة الناس لمواجهة هذا المنكر وهذا الظلم، هذا الأمر الذي لا يقره عرف ولا دين ولا خلق وإنما هي بلطجة إسرائيلية مؤيدة بالسلاح الأمريكي والفيتو الأمريكي، وعلى الأمة أن تقف في وجه هذا الظلم.
ودعا لأن نمدهم بكل ما استطعنا –لا تبرعا بل مما يجب علينا تجاههم- ومساهمتنا بقدر الإمكان من زكاة أموالنا والصدقات التطوعية ومن الوصايا وريع الأوقاف بل حتى من الأموال التي بها شبهة؛ فهي حرام على صاحبها حلال لهم.. لأنهم أبناء سبيل ومساكين وغارمون وهم في سبيل الله.
كما دعا إلى مقاطعة بضائع أعدائهم وأن نغذي جذوة الغضب في داخلنا فلا نهدأ بعد أن نهب لنصرتهم ونسترخي شيئا فشيئا، وأن ننادي حكام العرب أن يقفوا وقفة رجولية مع هذا الشعب المحاصر، وإلى الدعاء والدعاء لهم مرارا وتكرارا أن ينصرهم الله عز وجل ويثبت أقدامهم ويأخذ أعداءهم أخذة عزيز مقتدر.
______________
- نقلا عن موقع المركز العالمي للوسطية