باريس: شدد فضيلة العلامة يوسف القرضاوي – رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين- علي عالمية الإسلام، ورسالته الحضارية التي قصدت البشرية بأسرها، موضحا بأنه ليس لدى المسلم "عقدة" التفريق بين الشرق والغرب، بل أنه في المعتقد الإسلامي يؤسس الشرق كما الغرب لجزء من مملكة الله سبحانه وتعالي، حيث يذكرنا القرآن بقوة:" ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله".
جاء ذلك في كلمة فضيلته أمام رموز القيادات الإسلامية والسفراء ورجال السلك الدبلوماسي والإعلامي العربي في فرنسا، خلال مأدبة الغداء التي أقامها علي شرفه سعادة السفير محمد جهام الكواري؛ سفير قطر لدي فرنسا بمبني السفارة في باريس.
وقد غادر القرضاوي الدوحة الي العاصمة الفرنسية باريس للعلاج بناء على توصية من طاقم الأطباء المتابعين لحالته الصحية في قطر.
وكان القرضاوي قد ابتعد عن جمهوره ومحبيه قرابة ثلاثة أشهر، بسبب وعكة صحية أصيب فيها بشرخ بسيط في العمود الفقري إثر تعرضه لانزلاق في السادس من شهر نوفمبر الماضي، هذا بالإضافة إلي وعكة صحية أخرى وقعت له خلال زيارته للجزائر في أغسطس الماضي، شخصت على أنها بداية قرحة، وتم علاجه في مستشفى عين النعجة العسكري بالجزائر دون اللجوء إلى عملية جراحية.
عالمية الإسلام
من ناحية أخرى، رفض القرضاوي - في كلمته بمقر السفارة القطرية في باريس - ما ذهب إليه الشاعر كبلنج Kipllng في مقولته: (فالشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، مؤكداً على أنهما علي العكس سيلتقيان، بل هما قد التقيا.
وأضاف القرضاوي قائلاً إن حقيقية هذا اللقاء التكاملي الضروري بين الشرق والغرب، إذا ما شُكك فيها فيما مضي، نجدها قد تأكدت اليوم في عصر توضح فيه استحالة أن تعيش دولة في معزل عن غيرها من الدول، ولا شعب في معزل عن بقية الشعوب، ولا أمة وحدها معزولة عن الأمم أو عن التاريخ ... ولا دين معزول عن الأديان الأخرى، وخصوصا الدين الإسلامي الذي أعلن منذ البداية عن عالميته، واستند بالذات إلي رسالة قصدت الناس كافة. فمنذ الآيات المكية، أي منذ بداية الدعوة المحمدية كان القرآن الكريم يذكر الرسول:" وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين."، وهو يأمره بأن يقصد الناس وفق هذه الرسالة العالمية، وبالقياس إليها: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " وقوله تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا".
ويعرج فضيلة الشيخ القرضاوي للتذكير بأنه منذ سورة الفاتحة سيجد المسلم نفسه مُقادا لهذا الأفق المفتوح علي البشرية بأسرها: "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين..."؛ أي رب كل الناس، وإله كل الناس. وهو ما يتأكد في سورة الناس: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس.." إي كل الناس، وليس فقط العرب أو المسلمين. وقد أوصى فضيلته العرب والمسلمون المتواجدون في أوربا بصورة خاصة، أن يدركوا ذلك.
وواصل فضيلة الشيخ كلمته إلي رموز القيادات الإسلامية في أوربا، قائلاً: إنهم يتوجهون لإله واحد هو إله العالمين، وأنه تعالي ليس ربهم فقط، وليس هو رب العرب فقط، أو رب المسلمين فقط، بل هو رب الناس عامة. ووفق هذا المعني ذاته لن يكون ثمة من إشكالية عند المسلم في التعامل مع الناس أياً كان اعتقادهم أو ملاذهم أو مكانهم علي الأرض، هؤلاء الذين يشملهم الله بعفوه ورحمته أينما كانوا. بل إن الإشكال أن يرفض، أو أن يتردد المسلم في أن يتعامل مع الناس عامة، ويرتكب بالتالي معصية تمس اعتقاده نفسه. فإن الإنسانية جميعها؛ بكل أعراقها وأجناسها ومعتقداتها، تؤسس بالنسبة لنا كمسلمين، لأسرة كبيرة واحدة،هي الأسرة البشرية."
وأضاف "فمن ناحية الخالق، إلهنا واحد، ومن ناحية الأصل والنسب، نسبنا واحد؛ من حيث إننا جميعا ننتمي إلي أب واحد هو آدم عليه السلام. مستشهداً بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع: "أن إلهكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي علي عجمي، ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم."
ويذكر الله نبيه الكريم في هذا السياق بقوله تعالي:
"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم."
وشدد فضيلة الشيخ القرضاوي علي الحضور من أعضاء السلك الدبلوماسي والسفراء العرب الذين جاءوا للاحتفاء به: " بأنه يجب علي سفرائنا في كل مكان أن يكونوا حملة هذه الدعوة، والتأكيد علي أن الإسلام لا يريد "عداوة في الله" مع الآخر، وأن كل افتراء علي الإسلام من تقديم العنف أو الإرهاب لا علاقة له بالإسلام."
الإسلام انتصر على السيف
وأشار د.القرضاوي في هذا الصدد إلي مقولة الشيخ الغزالي رحمه الله التي لخصت بدلالة موقف الإسلام من العنف:
" إن الإسلام لم ينتصر بالسيف، بل انتصر علي السيف". لأن السيف قد ُرفع في وجه الإسلام، وضده، وجاهد أوائل المسلمين من أجل أن ينتصروا بدينهم علي السيف ، مبيناً كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرغب في الحرب ولو على سبيل التسمية، حيث قال صلى الله عليه وسلم : "تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلي الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها الحارث وهمام وأقبحها حرب ومرة". ، حيث أكد على أن الحرب معني لا يحبه الله، ولا يرضاه. والقرآن الكريم يقول في شأن غزوة الخندق:" ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفي الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ".
وهذه نقطة علي درجة من الأهمية، والتي تفيد بأن الحرب في ذاتها، بدون مبرر، لا معني لها من وجهة نظر الإسلام ، بل إن تخطي القتال قد يصبح في نظر العقيدة الإسلامية فتحا له وزنه الخاص، وهو ما حدث بشأن صلح الحديبية حيث نزل قوله تعالي بالمناسبة" :إنا فتحنا لك فتحا مبينا" ، واستغرب الصحابة في حينها أن يصف سبحانه وتعالي ما تم بالصلح والسلم بالفتح، وقالوا للنبي الكريم، أيكون فتحا حتي ذلك الذي تحقق بدون قتال؟. وكانت أجابته صلي الله عليه وسلم:" نعم هو فتح" ، فهم لم يكونوا يتصورون أنه يمكن أن يتم اعتبار ما تحقق بدون قتال وحرب فتحا، وفق تعلق الفتوحات في تاريخهم بالحرب والقتال، لذلك اهتم رسول الله بأن يشرح لهم أن الفتح السلمي لا يقل أهمية عن الفتح بالحرب، بل هنا يصفه تعالي " بالفتح المبين "، ويجعله علي درجة من الفتح بالقتال، موضحاً أن هذا هو الدين العظيم الذي أكرمنا الله به، ذلك الذي يُعلي من شأن السلم والحوار والتوجه نحو الآخر بالتي هي أحسن.
تشويه صورة الإسلام
وقال القرضاوي : إن بعض الغربيين قد شوهوا صورة الإسلام، وبعض المسلمين قد شوهوا صورة الإسلام. كما أن بعض علماء المسلمين، وبعض الشباب المتحمس قد قدموا صورة غير حقيقية عن الإسلام، وهو ما يجب أن نتكاتف علي تصحيحه وإعطاء الإسلام وجهه الحق أمام أمم الأرض".
واستثني فضيلته نضال الشعب الفلسطيني الذي يطالب بحقوقه من هذا السلب، مذكرا بقوله تعالي: ":كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، حيث يري أن الفلسطينيين قد أجبروا علي القتال ولم يختاروه. وهو يحدد:" نحن نساند المقاومة السامية والشريفة التي تدافع عن حقوقها الواضحة في فلسطين" .
من ناحية أخري دعا القرضاوي مسلمي أوروبا بأن ينخرطوا في مجتمعاتهم الأوربية بفاعلية واندماج، دون التطرف لا باتجاه الذوبان ولا في اتجاه الانزواء، مؤكدا علي دور المسلم الفاعل في محيطه العام، وفق ما يمليه عليه التزامه بدينه ودون التفريط في إي من ثوابته، ولكن أيضا في انسجام مع شرعة الآخر وفي تكامل خلاق مع صيرورة الوجود حوله."
وفي حديث لصحيفة الراية القطرية، أعرب فضيلته عن امتنانه لهذه اللفتة الكريمة من طرف سعادة السفير الكواري التي مكنته من اللقاء بالقيادات الإسلامية في فرنسا ورجال السلك الدبلوماسي وسفراء العرب في فرنسا، مؤكدا بأن الحوار مع الآخر هو الشرعة التي اختارها الإسلام.
من جهته أعرب سعادة السفير الكواري في حديث للراية عن سعادته الخاصة والكبيرة بأن يستقبل مثل هذا الرمز المهم في السفارة القطرية بباريس، مؤكدا علي أن فضيلة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، يحتل في قطر والعالم العربي والإسلامي، بل في العالم بأسره، مكانة لها دلالتها الكبيرة. وشرح الكواري بأن السفارة أرادت أن تكرم فضيلته، بمناسبة مروره بباريس في رحلة علاج؛ نتمنى أن تعجل له بالشفاء، بحضور قيادات ومسئولي المنظمات والجمعيات الإسلامية والعربية ورجال السلك الدبلوماسي والإعلامي العربي في فرنسا، مشددا علي أن السفارة تري في هذه القيادات الإسلامية عنصرا مهما في تعزيز العلاقات العربية الفرنسية: وجسرا للحوار الحضاري الذي يربط بين الضفتين.