د. يوسف القرضاوي

حدد الإسلام السلطة التي تملك التحليل والتحريم فانتزعها من أيدي الخلق، أيا كانت درجتهم في دين الله أو دنيا الناس، وجعلها من حق الرب تعالى وحده؛ فلا أحبار أو رهبان، ولا ملوك أو سلاطين، يملكون أن يحرموا شيئا تحريما مؤبدا على عباد الله.

ومن فعل ذلك منهم فقد تجاوز حده واعتدى على حق الربوية في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله واعتبر اتباعه هذا شركا "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ" (الشورى:21).

وقد نعى القرآن على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين وضعوا سلطة التحليل والتحريم في أيدي أحبارهم ورهبانهم، فقال تعالى في سورة التوبة: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة:31).

وقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي -وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام- فلما سمع النبي هذه الآية، قال: يا رسول الله! إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم"، وفي رواية أن النبي عليه السلام قال تفسيرا لهذه الآية: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه".

ولا زال النصارى يزعمون أن المسيح أعطى تلامذته -عند صعوده إلى السماء- تفويضا بأن يحللوا ويحرموا كما يشاؤون، كما جاء في إنجيل متى 18:18 "الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء".

كما نعى على المشركين الذين حرموا وحللوا بغير إذن من الله. قال تعالى: "قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ" (يونس:59).

وقال سبحانه "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ" (النحل:116).

 ومن هذه الآيات البينات، والأحاديث الواضحات عرف فقهاء الإسلام معرفة يقينية أن الله وحده هو صاحب الحق في أن يحل ويحرم، في كتابه أو على لسان رسوله وأن مهمتهم لا تعدوا بيان حكم الله فيما أحل وما حرم "وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ" (الأنعام:119) ، وليست مهمتهم التشريع الديني للناس فيما يجوز لهم وما لا يجوز. وكانوا -مع إمامتهم واجتهادهم- يهربون من الفتيا، ويحيل بعضهم على بعض، خشية أن يقعوا -خطأ- في تحليل حرام أو تحريم حلال.

روى الإمام الشافعي في كتابه "الأم" عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن الربيع ابن خيثم -وكان من أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه! أو يقول: إن الله حرم هذا، فيقول الله: كذبت، لم أحرمه ولم أنه عنه".

وحدثنا بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا!!

هذا ما نقله أبو يوسف عن السلف الصالح، ونقله عنه الشافعي وأقره عليه، كما نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا.

وهكذا نجد إماما كأحمد بن حنبل يسأل عن الأمر فيقول: أكرهه أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه، ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر الأئمة رضي الله عنهم.

...................

- من كتاب "الحلال والحرام في الإسلام" لفضيلة الشيخ.