د. يوسف القرضاوي
في مقابل الاتجاه المتشدد "تجميد الإسلام" توجد اتجاهات متعددة أخرى تشترك كلها في القصد إلى "تمييع الإسلام" وتفريغه من مضامينه الثابتة، وأحكامه الخالدة.
هذه الاتجاهات المغرضة والمشبوهة -على اختلافها وتباينها- حاولت وتحاول جاهدة تحريف الإسلام عن حقيقته، ولي عنانه عن غايته، وتطعيمه بعناصر غريبة عنه، وحذف أشياء تعد من مقوماته الذاتية، وتفسير مبادئه وأحكامه بما يخدم أهدافها، ويتفق مع مصالحها.
فهناك اتجاه يمكن أن نسميه "تنصير الإسلام" أي تفسيره تفسيرا يذيب الفوارق بينه وبين النصرانية، يسوي بين التوحيد والتثليث، وبين القرآن المحفوظ والإنجيل المحرف، ويزعم أن الجميع مسلمون: هذا مسلم عبد الله بشريعة محمد وذاك مسلم عبد الله بشريعة المسيح، واليهودي أيضا مسلم، فقد عبد الله بشريعة موسى!!
ومما يدخل في هذا الاتجاه: الحملات المنكرة على خصائص الإسلام في أحوال الأسرة من إباحة الطلاق، وتعدد الزوجات، والمحاولات المتكررة هنا وهناك لمنعهما، وتحريم ما أحل الله، تأثر بالأفكار الغربية النصرانية.
وهناك اتجاه سماه بعضهم "بلشفة الإسلام" وهو يعمد إلى تفسيره تفسيرا يلصقه بالاشتراكية الماركسية، أو يلصق به الاشتراكية الماركسية، مستغلا ما في الإسلام من تقييد للملكية، وإنصاف للطبقات الكادحة، وحرب على السرف والترف والشح، وجعل الناس شركاء في ضروريات البيئة، وحرص على تنمية الإنتاج، وعدالة التوزيع وإقامة تكافل اجتماعي يشمل فئات المجتمع كلها..الخ.
كما حاول أصحاب هذا الاتجاه تفسير أحداث السيرة النبوية، ومواقف الصحابة، وتاريخ الإسلام عموما، من خلال فلسفتهم الماركسية في التفسير المادي للتاريخ، حتى قسموا الصحابة بين يمين ويسار، وأداروا المعارك من خلال ما زعموه من صراع الطبقات.
ولا غرو أن قرأنا وسمعنا من يجمع بين الشيء وضده، كما قال بعضهم: أنا مسلم ماركسي، أو ماركسي مسلم، وسمعنا دعوة إلى الإسلام اليساري أو اليسار المسلم، وكذلك الإسلام الاشتراكي أو الاشتراكية الإسلامية، وقرأنا اشتراكية الرسول، واشتراكية عمر، واشتراكية أبي ذر.
وهناك اتجاه ثالث مقابل للاتجاه الثاني ومضاد له، ويمكن أن نسميه "رسملة الإسلام" أي تفسير الإسلام تفسيرا يجعله أقرب إلى الرأسمالية، مستغلا ما في الإسلام من عناية بحرية الفرد وحقوقه ورعاية حوافزه الذاتية، وإباحة الملكية الفردية، وما يتبعها من التفاضل في الأرزاق التفاوت بين الأفراد والطبقات.
وشرعية الميراث والوصية، وغير ذلك مما ينافي الفلسفة الجماعية التي تقوم عليها الماركسية، فضلا عن المادية الجدلية التي تعتبر الدين أفيون الشعوب.
ويدعم هذا الاتجاه تفسيره هذا، بأن الرأسمالية تقوم في جانبها السياسي على المبادئ الديمقراطية، التي تتفق مع مبدأ الشورى والبيعة في النظام الإسلامي.
ولا عجب أن قرأنا وسمعنا أيضا عن الإسلام الليبرالي، وعن الليبرالية الإسلامية، ورأينا من يحاول تبرير الفوائد الربوية، محرفا كلمات الله عن مواضعها.
ويكفي للرد على كلا الاتجاهين السالفين وفساد دعواهما: أن كلا منهما ينقض الآخر، ولا يمكن أن يكون الإسلام فرديا وجماعيا، رأسماليا واشتراكيا في الوقت ذاته، ولكن الإسلام حوى أفضل ما في المذهبين العالميين، وتنزه عن مساوئهما، وهو على كل حال أسبق منهما زمنا، وأرسخ قدما، فلا يجوز أن ينسب المتقدم إلى المتأخر.
والحق أن الإسلام منهج متميز بذاته، ولا يوصف إلا بأنه الإسلام، وقد يتفق مع هذا المذهب أو ذاك في أصل أو أكثر من أصوله، ولكنه مستقل عنها تماما في أهدافه وطرائقه، وفي مقوماته وخصائصه، وفي أنواع أحكامه، ومصادر إلهامه وإلزامه.
وأود أن أقول كلمة هنا لمن يدعو إلى الاشتراكية أو الديمقراطية بدعوى أن هذه، أو تلك تتفق مع الإسلام: لماذا لا تدعون إذن إلى الإسلام نفسه؟ لماذا تدعون الأصل وتدعون إلى الفرع؟ إذا كان في هذه المذاهب المستحدثة ما في الإسلام، فقد أغنانا الله تعالى بالإسلام، وإن كان فيها ما يخالف الإسلام فلا نرضى بغير الإسلام بديلا.
ــــــــــ
- من كتاب "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي" لفضيلة الشيخ.