د. يوسف القرضاوي

بدأ الإمام الغزالي موسوعته "إحياء علوم الدين" ـ التي تضمنت أربعين كتابا، شملت العبادات والعادات والمهلكات والمنجيات من الأخلاق ـ بكتاب "العلم"، الذي أفاض فيه وفصل القول في بيان أقسامه، والمحمود منه والمذموم، وبيان فرض الكفاية من فرض العين منه، كما ظهر لنا فيما سبق.

كما جعل أول "عقبة" يجب على سالك الطريق أن يجتازها هي: "عقبة العلم"، وذلك في كتابه "منهاج العابدين" الذي صنفه قبل موته بقليل، ليرسم فيه معالم الطريق إلى الله بإيجاز.

وكأن الغزالي بهذا الصنيع يرد على المنحرفين من المتصوفة الذين استخفوا بقيمة العلم، وزعموا أنه "حجاب" بين العبد وربه، وأثرت عنهم في ذلك عبارات تمجها الأسماع، وتنفر منها الطباع، لا يقبلها دليل الشرع ولا برهان العقل.

ولم يكتف الغزالي ـ رحمه الله ـ بهذا، بل نجده كثيرا في شرحه للأخلاق الربانية والمقامات الإيمانية، يبين أهمية العلم لتحقيقها والمحافظة عليها، فالعلم أحد المكونات أو العناصر الأساسية الثلاثة، التي يعبر عنها بأنها: علم، وحال، وعمل.

فالعلم يمثل الجانب المعرفي والإدراكي، وهو المقدمة والأساس، والحال يمثل الجانب الوجداني والانفعالي، والعمل يمثل الجانب الإرادي والسلوكي.

وإلى هذا الترتيب يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ" (الحج:54)

 وقد ذكرنا فيما سبق تأثير العلم في السلوك وأنه من ثمراته ـ إذا رسخ وتمكن ـ اليقين والمحبة لله، وأنه الذي يعرف السالكين إلى الله حقيقة الإخلاص، وآفة الرياء.

بيد أن الغلاة من الصوفية يزدرون العلم الشرعي، في مقابل الكشف أو الذوق الصوفي.

"وهم يسمون صاحب العلم الشرعي "عالما"، ويسمون صاحب الكشف الصوفي "عارفا"، فـ "العلم" عندهم كسبي استدلالي، و"المعرفة" وهبية ضرورية ـوهي العلم اللدني ـ والعلم له الخبر، والمعرفة لها العيان.

ومثال هذا: أنك إذا رأيت في حومة ثلج ثقبا خاليا، استدللت به على أن تحته حيوانا يتنفس، فهذا علم، فإذا حفرته وشاهدت الحيوان، فهذه معرفة.

ولا مشاحة في الاصطلاح، فلكل طائفة أن تصطلح على ما تتفاهم به، بشرط أن تتضح المدلولات وتتحدد المفاهيم، ولكن الخطر هنا هو تحقير "العالم" وتقديس "العارف"، أو اعتبار ما يجئ من طريق المعرفة معصوما، وما يجئ من طريق العلم مظنونا أو مشكوكا فيه أو منقوصا، وإن كان مستمدا من الكتاب والسنة.

وذلك كقول بعض المنحرفين: "العلم يسعطك الخل والخردل، والعارف ينشقك المسك والعنبر"!

قال: ومعنى هذا: أنك مع العالم في تعب، ومع العارف في راحة، العارف يبسط عذر العوالم والخلائق، والعالم يلوم. وقد قيل: من نظر إلى الخلق بعين "العلم" مقتهم، ومن نظر إليهم بعين "المعرفة" عذرهم!!

يقول الإمام ابن القيم معقبا على هذا الكلام الخطير:

"فانظر ما تضمنه هذا الكلام ـ الذي ملمسه ناعم، وسمه زعاف قاتل ـ من الانحلال عن الدين، ودعوى الراحة من حكم العبودية، والتماس الأعذار لليهود والنصارى وعباد الأوثان، والظلمة والفجرة، وأن أحكام الأمر والنهي ـ الواردين على ألسن الرسل ـ للقلوب بمنزلة سعط الخل والخردل، وأن شهود الحقيقة الكونية الشاملة للخلائق، والوقوف عليها، والانقياد لحكمها، بمنزلة تنشيق المسك والعنبر.

فليهن الكفار والفجار والفساق، انتشاق هذا المسك والعنبر إذا شهدوا هذه الحقيقة وانقادوا لحكمها!

ويا رحمة للأبرار المحكمين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من كثرة سعوطهم بالخل والخردل!

فإن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا يجوز، وهذا لا يجوز، وهذا حلال وهذا حرام، وهذا يرضي الله، وهذا يسخطه: خل وخردل عند هؤلاء الملاحدة، وإلا فالحقيقة تشهدك الأمر بخلاف ذلك.

ولذلك إذا نظرت ـ عندهم ـ إلى الخلق بعين الحقيقة عذرت الجميع، فتعذر من توعده الله ورسوله أعظم الوعيد، وتهدده أعظم التهديد.

ويا لله العجب! إذا كانوا معذورين في الحقيقة، فكيف يعذب الله سبحانه المعذور، ويذيقه أشد العذاب؟

وهلا كان الغني الرحيم أولى بعذره من هؤلاء"؟

ـــــــــ

- من كتاب "الحياة الربانية والعلم" لفضيلة الشيخ.