د. يوسف القرضاوي

يتجلى الاجتهاد المعاصر في ثلاثة أشكال أو ثلاث صور:

1-  صورة التقنين

2-  صورة الفتوى

3-  صورة البحث

وسنفرد لكل صورة بعض الحديث

الاجتهاد في صورة التقنينات الحديثة

ظهر الاجتهاد المعاصر جليا في عدد من التقنينات الحديثة، وكان لا يعدو في أول أمره أن يكون اجتهادا انتقائيا، من داخل المذهب الحنفي أولا، ثم من داخل المذاهب الأربعة المتبوعة لأهل السنة، ثم من خارج المذاهب الأربعة.

ثم تطور الاجتهاد إلى أن غدا اجتهادا إنشائيا في بعض القضايا الحديثة، والمسائل الجديدة.

وإذا نظرنا إلى بداية التقنين في العصر الحديث، وجدنا أن مجلة الأحكام العدلية، هي الخطوة الأولى في ميدان التقنين، وكانت ملتزمة بمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وبالمفتى به في المذهب، ولكنها خرجت في بعض المسائل عن القول المفتى به إلى غيره؛ تحقيقا لمصالح معتبرة أو درءا لمفاسد جاء الشرع بنفيها.

وهذا واضح في ترك المجلة لقول المذهب الأعظم، وأخذها بقول صاحبه أبي يوسف في مسألة "الاستصناع".

ولكن الدارسين يعلمون أن كل مذهب من المذاهب الفقهية لا يخلو من جوانب فيها عنت أو تضييق على الناس، وهي من ناحية الدليل ليست أرجح ولا أقوى، وفي ساحة المذاهب الأخرى ما هو أصح وأولى بالاختيار عند الموازنة بين الآراء.

فالشريعة غنية بمجموع مذاهبها واجتهادات فقهائها، لا بمذهب واحد، وإن يكن هو المذهب الحنفي، برغم سعته وخصوبته الداخلية واستبحار علمائه، ودقة الصناعة الفقهية فيه.

وقد ظهرت هذه الحاجة إلى فقه المذاهب الأخرى لجمعية المجلة نفسها، كما يذكر الأستاذ مصطفى الزرقا، ويشعر بذلك ما جاء في تقرير لائحة الأسباب الموجبة التي صدرت بها المجلة، من بحث الجمعية المذكورة عن مذهب ابن شبرمة في اعتبار الشروط مطلقا في العقود، ومن المناقشات التي جرت حول الأخذ بمذهبه ثم ترجيحها الاقتصار في ذلك على المذهب الحنفي لتوسطه ولعدم الحاجة (في نظرهم) إلى الأخذ بمذهب ابن شبرمة؛ لأن الاجتهاد الحنفي يعتبر ويصحح كل شرط جرى عليه العرف.

ثم بدئ رسميا بتنفيذ هذه الفكرة: فكرة الاستفادة من مختلف المذاهب الفقهية، عن طريق التقنين في أحكام الأحوال الشخصية أواخر العهد العثماني إذ وضعت الحكومة العثمانية قانون حقوق العائلة، وأخذت فيه من المذهب المالكي حكم التفريق الإجباري القضائي بين الزوجين عن طريق التحكيم المنصوص عليه في القرآن عند اختلافهما، وتوسعت فيه؛ وبذلك مكنت المرأة أن تخلص من زوج السوء بطلبها التفريق، كما يتمكن الرجل أن يتخلص من امرأة السوء بالتطليق، كما أخذت أحكاما إصلاحية أخرى من مذاهب أخرى.

وقد أخذ القانون المذكور أيضا من مذهب مالك إطلاق حرية الزواج لزوجة المفقود بعد أربع سنين من فقدانه، بينما يقضي المذهب الحنفي بانتظار وفاة جميع أقرانه في العمر، فتبقى زوجة المفقود معلقة حتى شيخوختها، ثم حذت الحكومة المصرية في قضية التفريق وزوجة المفقود بهذا الحذو في سنة 1920م.

ثم في سنة 1929م خطت الحكومة المصرية خطوة واسعة في الأخذ من مختلف الاجتهادات مما وراء المذاهب الأربعة، فأصدرت قانونا تحت رقم (25) ألغت فيه تعليق الطلاق بالشرط في معظم حالاته، كما اعتبرت تطليق الثلاث أو الثنتين بلفظ واحد طلقة واحدة عملا برأي ابن تيمية ومستنده الشرعي، وذلك بإقرار مشيخة الأزهر للتخلص من مآسي الطلاق المعلق وطلاق الثلاث، مما يرتكبه جهال الرجال وحمقاهم في ساعات النزاع أو الغضب، فيخرجون عن حدود السنة والمقاصد الأساسية في الطلاق المشروع، ثم يلتمسون المخرج منه بشتى الحيل والوسائل الدنيئة بعد الوقوع، مما يعرفه أهل العلم.

وقد كتب الإمام المراغي شيخ الأزهر في ذلك الوقت بحوثه القيمة عن التجديد والاجتهاد تحت عنوان "بحوث في التشريع الإسلامي" يدافع فيها عن الاتجاه الجديد في تقنين الأحوال الشخصية، وحق علماء العصر في الاجتهاد والاختيار، ويرد فيها على المتشددين من العلماء الذين يوجبون تقليد أحد المذاهب، لا يجيزون الخروج عن المذاهب الأربعة، ولا يسمحون بالاجتهاد في القضايا الجديدة.

وقد حدثت تعديلات بعد ذلك نتيجة اجتهادات جديدة، اقتضاها تطور المجتمع وتغير الناس مثل قانون "الوصية الواجبة" أو نتيجة للشكوى من سوء تطبيق بعض القوانين مثل "بيت الطاعة" التي كانت تجر إليه المرأة قهرا بسيف السلطة وعصا الشرطة!

ثم كان التعديل الأخير لقانون الأحوال الشخصية في مصر، الذي تعددت المآخذ عليه، وكثرت الشكوى منه وظهر كثير من نقاط الضعف فيه على ضوء التطبيق الواقعي، كقضية مسكن الزوجية ولمن يكون؟ وقضية التعويض للمطلقة والنفقة عليها.. وقضية التزوج بأخرى لمن يقدر عليه ويحتاج إليه، ويثق من نفسه بالعدل.. إلى غير ذلك من القضايا التي أمست حديث الناس، والتي يرى الكثيرون أن فيها جورا على الرجل لحساب المرأة.

والواجب أن يكون الحق وحده رائد الذين يضعون القانون، لا محاباة الرجل على حساب المرأة، ولا المرأة على حساب الرجل، "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" (المؤمنون:71).

ولكي ينضبط ذلك لابد أن يعرض أي قانون يوضع على مجمع علمي إسلامي يقول فيه كلمته، ويحسن أن يكون مجمعا عالميا غير خاضع للسلطة المحلية، التي ترجى وتخشى!

وأعتقد أن القانون المشكو منه لو عرض على مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف لكان له فيه رأي آخر، ولخفف كثيرا من غلوائه، وعدل كثيرا من أحكامه.

الاجتهاد في صورة الفتوى

وأما الاجتهاد في صورة الفتوى أو مجال الفتوى، فهو ميدان فسيح، اتخذ ألوانا شتى، فمنه فتاوى الجهات الرسمية المكلفة بالإفتاء مثل دار الإفتاء بمصر، ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف، ورياسة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية وغيرها، وقد نشرت فتاوى دار الإفتاء بمصر في أحد عشر مجلدا.

ومنه: فتاوى المجلات الإسلامية، التي يتوجه الناس لها بأسئلتهم، وتجيبهم عنها مثل فتاوى مجلة "المنار" التي كان يجيب فيها العلامة السيد رشيد رضا صاحب المجلة ومنشئها والتي جمعت فيما بعد في ستة مجلدات وفتاوى "مجلة الأزهر" و"نور الإسلام" و"منبر الإسلام" في مصر لسنوات عديدة، وفتاوى مجلة "الوعي الإسلامي" بالكويت، و"منار الإسلام" بأبو ظبي، و"الشباب" في بيروت، وغيرها.

ومنه: فتاوى بعض العلماء المرموقين الذين يلجأ إليهم جمهور المسلمين يستفتونهم في مشكلات خاصة أو قضايا عامة، فيفتونهم فتاوى تحريرية تنشر في صحف أو كتب، مثل فتاوى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله، والمفتي الأسبق الشيخ حسنين مخلوف حفظه الله، ومثل فتاوانا في إذاعة قطر وتلفزيونها وفي بعض الصحف والمجلات، التي نشر الجزء الأول منها في كتاب "فتاوى معاصرة".

ومنه: فتاوى بعض المجامع والهيئات، مثل فتاوى مجمع البحوث الإسلامية الأزهر بالقاهرة، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية، والمجامع العلمية المحلية في عدد من البلدان الإسلامية، وفتاوى هيئات الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية، وقد صدر بعضها في صورة كتب مثل فتاوى "بنك فيصل الإسلامي" بالسودان، وفتاوى بيت التمويل الكويتي، وبنك فيصل الإسلامي المصري.

الاجتهاد في صورة البحث أو الدراسة

والمجال الثالث للاجتهاد هو: مجال البحث والدراسة، وهو يشمل ما يؤلف من كتب علمية أصيلة لذوي الاختصاص والمقدرة من العلماء، وما يقدم من بحوث ودراسات جادة في المؤتمرات العلمية المتخصصة، وما يقدم من رسائل وأطروحات في أقسام الدراسات العليا بالجامعات للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه، وما يقدمه أساتذة الجامعات من إنتاج علمي للترقي في سلم الدرجات العلمية، وما ينشر من بحوث مخدومة في المجلات العلمية الرصينة.

وهذه كلها مظنة للاجتهاد إذا توفر لها من أوتي الملكة، واستوفى الشروط العلمية المعروفة، وبخاصة ما كان من قبيل الاجتهاد الجزئي، الذي لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الاجتهاد المطلق من النظر في كل أبواب الفقه ومسائله وإبداء رأي مستقل فيها، وإنما يتوفر على موضوع أو مسألة معينة فيستوفي بحثها من شتى جوانبها، ويصل فيها إلى رأي يراه وفقا للمعايير التي ارتضاها، أرجح وأقوى وأدنى إلى الصواب، سواء كان رأيا مختارا من بين الآراء القديمة المنقولة، أم رأيا جديدا، مولدا أو مبتكرا.

ـــــــــ

- من كتاب "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" لفضيلة الشيخ.