د. يوسف القرضاوي

لم يكن الشيخ (العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله) يركز على التغيير السياسي، وإنما يراه أثرا للتغيير الإيماني والأخلاقي، بل رأيناه ينكر على العلامة المودودي، وعلى الشهيد سيد قطب تركيزهما على هذا الجانب في فكرهما، وسمى ذلك في كتاب يتضمن نقد هذا الاتجاه بحرارة (التفسير السياسي للإسلام) وخصوصا ما كتبه المودودوي في كتابه "المصطلحات الأربعة في القرآن" ويعني بها: مصطلحات: الرب، والإله، والدين والعبادة. وقد تأثر الشهيد سيد قطب بكتابات المودودي في هذا المجال.

وقد غضب أتباع المودودي من كتاب الشيخ الندوي، وردوا عليه في مجلاتهم وصحفهم في مقالات سماها بعضهم "التفسير الحقيقي للإسلام".

في حين رحب المودودي بنقد صديقه وزميله القديم في الجماعة الإسلامية: الإمام الندوي، ولم ير في هذا النقد حرجا ولا إثما.

ولسنا في مقام الفصل بين الرجلين الكبيرين في هذا المقام، ولكننا نريد أن نبين اتجاه الندوي في الإصلاح، ونظريته في التغيير، وتركيزه على الجانب النفسي والإيماني قبل كل شيء.

ولعل بقاء العلامة الندوي في الهند بأغلبيتها الوثنية المتحكمة، وفي بيئة إسلامية تعتبر أقلية في بلادها، وإن كانت كبيرة في ذاتها (150 مليونا) وعدم قدرة المسلمين على أن يكون لهم سلطان، وتقوم لهم دولة تحكم بالإسلام في تلك البلاد ـ كان له تأثيره في نظرة الشيخ إلى الإصلاح والتغيير، وإن كان هو يقدم ذلك علاجا ومنهاجا للمسلمين في كل مكان، ولكن الإنسان لا يمكنه أن ينفصل عن مكانه وزمانه.

وأود أن أوضح هنا تركيز الشيخ الندوي على "الإيمان" باعتباره أساس كل تغيير وإصلاح، إنما يعني "الإيمان" بمفهومه الإسلامي، فليس الإيمان في الإسلام مجرد شعور وجداني، كما في أديان أخرى، إنما يتمثل الإيمان في كل جوانب النفس الإنسانية من العقل والوجدان والإرادة، أو ما يعبر عنه بعضهم بالتفكير والانفعال والنزوع.

ومعنى هذا: أن الجانب الفكري له حظ في الإصلاح عن الشيخ، ولهذا عُنِيَ رحمه الله في كتبه ورسائله ومحاضراته بتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام ورسالته وحضارته، ومقاومة الأفكار الضالة التي تنحرف بأمته عن وجهتها وغايتها أو عن الصراط المستقيم. وبهذا تتطهر من الجاهلية بكل أوضارها العقلية والنفسية، وتتحر من "الطاغوت" أيا كان اسمه وعنوانه.

فلقد رأينا القرآن الكريم يهتم بالدعوة إلى "اجتناب الطاغوت" اهتمامه بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، كما قال في كتابه " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ.." (النحل:36)

وقال: "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى.. " (الزمر:17)

وقال: ".. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا.ز" (البقرة:256) فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، كما تقدم التخلية على التحلية، وكما تقدم إزالة الأنقاض على تأسيس البنيان.

ولا عجب أن رأينا الشيخ يكتب كتابه عن "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية".

كما رأيناه يحذر من دعوة الأحمدية القاديانية، التي اعتبرها "ثورة على النبوة المحمدية والإسلام".

وكذلك وقف في وجه الدعوات القومية المتطرفة التي تعمل على تمزيق الأمة الإسلامية، وتحويلها إلى قوميات تتنافر، ويجافي بعضها بعضا، بل يقاتل بعضها بعضا، مبينا أن الأمة الإسلامية فوق العصبيات العرقية واللونية وغيرها، وأنها أمة واحدة.

ولهذا وقف بشدة ضد تيار القومية العربية المتطرف، الذي كان يعتبرها بعضهم "نبوة جديدة" في مقابل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولهذا كانت فكرته الإصلاحية موجهة إلى الأمة كلها بكل عناصرها وقومياتها، وبلك ألسنتها ولغاتها، وفي كل أوطانها وأقاليمها، وطالما وجه رسائله ومحاضراته إليها، مثل "مسؤولية الأمة المسلمة"، "قيمة الأمة المسلمة ورسالتها في العالم"، "المسلمون على مفترق الطرق"، وهذا توجه قديم عند الشيخ، منذ كتب رسالة "إلى ممثلي البلاد الإسلامية" وهو شاب في مقتبل العمر.

ولكن ـ والحق يقال ـ يرى الشيخ أن "العرب" خاصة، عليهم تبعة أعظم، ومسؤولية أكبر من سائر الشعوب الإسلامية، لأنهم عصبة الإسلام، وأهل الرسول العظيم، وبلغتهم نزل القرآن الكريم، ومنهم كان الصحابة الأولون الذين حملوا رسالة الإسلام إلى العالم، وأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

ولقد وجدنا هذا من قديم فيما كتبه من رسائل بليغة، فواحة بعطر الأدب، حية بنبض الإيمان، في صورة حوار بديع بين "العالم وجزيرة العرب". كما تأكد ذلك بالرسائل التي وجهها إلى عدد من البلاد العربية، يسمعها فيه كلمته، ويبلغها نصيحته، تحت عنوان "اسمعي يا مصر"، "اسمعي يا سورية"، "اسمعي يا زهرة الصحراء" يعني الكويت. ثم أخيرا "اسمعوها مني صريحة أيها العرب" التي قال فيها كلمته الشهيرة:

"لو جمع لي العرب في صعيد واحد واستطعت أن أوجه إليهم خطابا تسمعه آذانهم، وتعيه قلوبهم لقلت لهم: أيها السادة! إن الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد العربي صلى الله عليه وسلم هو منبع حياتكم، ومن أفقه طلع صبحكم الصادق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو مصدر شرفكم وسبب ذكركم، وكل خير جاءكم ـ بل وكل خير جاء العالم ـ فإنما هو عن طريقه وعلى يديه، أبى الله أن تتشرفوا إلا بانتسابكم إليه وتمسككم بأذياله والاضطلاع برسالته، والاستماتة في سبيل دينه، ولا راد لقضاء الله ولا تبديل لكلمات الله، إن العالم العربي بحر بلا ماء كبحر العروض حتى يتخذ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إماما وقائدا لحياته وجهاده، وينهض برسالة الإسلام كما نهض في العهد الأول، ويخلص العالم المظلوم من براثن مجانين أوربا الذين يأبون إلا أن يقبروا المدنية ويقضوا على الإنسانية القضاء الأخير بأنانيتهم واستكبارهم وجهلهم ـ ويوجه العالم من الانهيار إلى الازدهار، ومن الخراب والدمار والفوضى والاضطراب، إلى التقدم والانتظام، والأمن والسلام، ومن الكفر والطغيان إلى الطاعة والإيمان، وإنه حق على العالم العربي سوف يسأل عنه عند ربه فلينظر بماذا يجيب؟!"؟

ـــــــــ

- من كتاب "الشيخ أبو الحسن الندوي كما عرفته" لفضيلة الشيخ.