د. يوسف القرضاوي

الإسلام منهج كامل لحياة البشر، مادية وروحية، فردية واجتماعية، دينية ودنيوية، مثالية وواقعية، فلابد أن يؤخذ الإسلام كله كما أمر الله، عقيدة وعبادة، وأخلاقا ومعاملة، وتشريعا وتوجيها وأخوة وتنظيما.

ومما يؤسف له أن الإسلام ابتلى بقوم جعلوه لحما على وضم، فأعملوا في كيانه المتماسك سكين التقطيع والتجزئة، مغيرين لطبيعته التي أنزله الله عليها.

فهناك من يريد هذا الدين مجرد عقيدة نظرية بلا عبادة ولا عمل، وحسبك أن تنطق بالشهادتين لتأخذ صكا بدخول الجنة والنجاة من النار، مع أن الإيمان الحق لا يوجد بلا عمل، كما يتضح ذلك من مئات النصوص من القرآن والسنة.

ومنهم من يريد عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقا بلا تعبد، برغم قول الله تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56) وقول الرسول "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

ومنهم من يريده عقيدة وعبادة وأخلاقا، ولا يريده تشريعا ولا نظاما للحياة.

إنه مسلم في المسجد يؤدي فرض الله ويقرأ كتاب الله، ولكنه إذا خرج من المسجد تعامل بالربا الذي حرمه الله، ويحتكم إلى محاكم تقضي بغير ما أنزل الله، واعتنق أفكارا مضادة لما شرع الله.

إنه في المسجد ديني، وفي خارج المسجد علماني، يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، يأخذ من القرآن آية الكرسي، يتلوها ويتبرك بها، ولا يأخذ آية المداينة، وكلتاهما في سورة واحدة، يمتثل أمر الله إذا قال "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ" (البقرة:183) ويتوقف في أمره "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ" (البقرة:178) أو " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ " (البقرة:216) وكلها واردة في سورة واحدة بصيغة واحدة.

يؤمن ويعمل بقوله تعالى في سورة المائدة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ" (المائدة:6) إلى آخر آية الطهارة المعروفة.

ولكنه لا يقف هذا الموقف من قوله تعالى في نفس السورة "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (المائدة:38) وقوله " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ "،  " هُمُ الظَّالِمُونَ "، " هُمُ الْفَاسِقُونَ ". (المائدة:47،45،44)

لقد كان الغالب على الناس في العصور الماضية الزيادة في الإسلام بالإحداث والابتداع وإضافة ما ليس من الدين إليه، والتقرب إلى الله بما لم يشرعه، ودخل في دين الله بدع ما أنزل بها من سلطان ولا قام عليها من برهان، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أما هذا العصر فمحنة الإسلام فيه تتمثل فيمن يريدون أن يحذفوا منه ما هو من صلبه ومن مقوماته ومن خصائصه.

ولا غرو أن قامت في الهند نحلة جديدة تحت شعار نبوة زائفة، كل همها أن تحذف من الإسلام فريضة الجهاد في سبيل الله، ليبقى الإسلام ضعيفا أعزل بلا قوة، ويعيش المسلمون تحت سلطان الكفار، يطيعونهم ولا يعصون، ويستسلمون ولا يقاومون، لأن طاعة أولي الأمر واجبة ولو كانوا كفارا غاصبين!

وقام في بعض بلاد المسلمين من يفصل بين الإسلام والحكم، وينادي به دينا بلا دولة، وعقيدة بلا شريعة، وقرآنا بلا سلطان!

وهذه الدعاوى كلها يرفضها جزما منطق الإسلام أصولا وفروعا.

إن الإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقياته وتشريعاته، وحدة مترابطة، لا يقبل التجزئة، ولا يجوز أخذ بعضها وإهمال بعضها، فإن الذي شرعها واحد وهو الله تعالى الذي أمر بطاعته فيها، وحذر من تركها أو ترك بعضها.

يقول تعالى "ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (البقرة:208) أي ادخلوا في شرائع الإسلام جملة، ولا تطيعوا الشيطان في الإعراض عن شيء منها.

ويقول سبحانه "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" (المائدة:49).

والتحذير هنا من دسائس غير المسلمين واتباع أهوائهم التي تحاول دائما أن تفتن المسلم عما أنزل الله إليه من كتاب، وما يشرع له من أحكام، إن لم يكن عن الكل، فعن بعض ما أنزل الله. وربما رضوا بذلك كخطوة أولى تتبعها خطوات، على أن فتح باب التفريط في جزء من دين الله لا يؤدي إلا إلى ضياع الدين كله.

ومن هنا أنكر الله تعالى في كتابه على بني إسرائيل تجزئتهم لدينهم، وأخذهم ببعض منه وتركهم لبعض فقرعهم بهذا الأسلوب الشديد البالغ الشدة "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" (البقرة:85).

ــــــــــ

-من كتاب "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي" لفضيلة الشيخ.