د. يوسف القرضاوي

ما هم الإنسان الذي لا دين له ولا عقيدة؟ وما غايته من وجوده؟ وما رسالته في الحياة؟

أغايته رضوان الله؟ إنه لا يؤمن به ولا يرجو له وقاراً.

أغايته الخلود والنعيم في الحياة الأبدية؟ إنه لا يؤمن بها، ولا يفكر فيها.

إنه لا هم له ولا غاية ولا رسالة إلا أن يدور في فلك نفسه، يتبع هواها ويحقق رغائبها العاجلة، ويسير خلف دوافعها أياً كانت، وفقاً لمزاجه وتكوينه الخاص.

فإن كان مزاجه من النوع الهادئ، المسالم عاش في الدنيا غافلاً عن نفسه وعما حوله، حياً كميت، وموجوداً كمفقود، لا يحس أحد بحياته ولا يترك فراغاً بعد موته.

فذاك الذي إن عاش لم يُنتفع به وإن مات لا تبكي عليه أقاربه

وإن كان يغلب على نفسه الجانب "البهيمي" جرى وراء الشهوات واللذات، يقتحم إلى بلوغها كل حرمة، ويسلك من أجلها كل طريق، لا حياء يردعه، ولا ضمير يقمعه، ولا عقل يمنعه، يقول ما قاله أبو نواس:

إنما الدنيا طعام وشراب ونــدام

فإذا فاتك، هذا فعلى الدنيا السلام

(الندام: المنادمة والمجالسة على شرب الخمر)

وإن كان مزاجه من النوع "العصبي" جعل همه العلو في الأرض، والاستكبار على الناس، وإظهار السلطة والتحكم في الرقاب، والفخر بلسانه، والاختيال بفعاله، ولم يهمه في سبيل ذلك أن يبني قصراً من جماجم البشر، وأن يزخرفه بدماء الأبرياء، شعاره ما قاله الشاعر الجاهلي:

لنا الدنيا ومن أمسى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا

بغاة ظالمين وما ظُلمنــا ولكنا سنبدأ ظالمـــينا

إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً تخر له الجبابر ساجــدينا

وإن كان يغلب عليه الجانب "الشيطاني" دبر المكايد. وفرق بين الأحبة، ووضع الألغام ليدمر، وسمم الآبار ليقتل، وعكر المياه ليصطاد، وزين الإثم، وأغرى بالفاحشة، وأوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وقال مع الشاعر:

إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفعا

وكان ممن حق عليهم قول الله: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) (الرعد:25).

وهكذا يدور كل واحد من هؤلاء حيث تدور نفسه، وينقاد لأمر هواه، والهوى يعمى ويصم، والهوى إله معبود: (ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله) (القصص:50).

أما المؤمن فإنه يعيش لرسالة كبيرة، ويعمل لهدف رفيع، ويحيا في ظل مثل عليا، يعيش لها ويموت عليها هي: القربى إلى الله، والتخلق بأخلاقه، والسعي في مرضاته. وفي سبيل مثله يكبح جماح نفسه، ويقمع طغيان هواه، ويضغط على غرائزه وشهواته، احتساباً لله وإيثاراً لما عنده، وابتغاء مرضاته، وإيماناً بحسن الثواب لديه، قد وضع نصب عينيه قول ربه جل شأنه: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم، للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله، والله بصير بالعباد * الذين يقولون: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) (آل عمران:14-17).

فهذه هي الثمرات الأخلاقية للإيمان، وهذه هي صفات المؤمن التقي الذي آثر ما عند الله على شهوات الحياة: خشية من الله وحرص على رضاه ومغفرته، وصبر وصدق وقنوت وإنفاق، بلا ادعاء ولا غرور، بل شعور بالتقصير، يجعله يستغفر الله على كل حال.

إن المثل الأعلى للمؤمن أن يقترب من الله في علاه، ويحصل على مثوبته ورضاه، وهذا يجعل حياته كلها موصولة الأسباب بالله، و،جعله يحيا دائماً وهو يرجو الله والدار الآخرة، ويجعل أكبر همه أن يتخلق بأخلاق الله، وينأى بنفسه عن مشابهة الأنعام والسباع والشياطين.

ولقد زعم بعض الكاتبين أن الدين كلف الناس شططاً، بل محالاً، حين طلب إليهم أن يتخلقوا بأخلاق الله. كأنه تصور أن هذه الدعوة تعني أن يتحول الإنسان إلى إله!

وهذا وهم بعيد عن الصواب، فإن مطالبة الإنسان أن يتخلق بأخلاق الله، معناها: المحاولة الدائبة للصعود والترقي. والسعي المتواصل من قبل الإنسان ليقبس من كمال الألوهية بقدر طاقته واستعداده البشري.

إن الله عليم حكيم فليحاول الإنسان أن يتصف بالعلم والحكمة بقدر طاقته البشرية، والله رؤوف رحيم فليحاول الإنسان أن يتصف بالرأفة والرحمة بقدر طاقته البشرية، والله غنى كريم فليحاول الإنسان أن يتصف بالغنى والكرم بقدر طاقته البشرية. والله صبور حليم فليحاول الإنسان أن يتصف بالصبر والحلم بقدر طاقته البشرية. والله جبار متكبر فليحاول الإنسان أن يكون جباراً على المبطلين والطغاة متكبراً عن دنايا الأخلاق وسفاسف الأعمال.

والله عزيز ذو انتقام فليحاول الإنسان أن يكبرن عزيزاً على الكافرين وذا نقمة على المفسدين الظالمين. والله شكور غفور فليحاول الإنسان أن يكون شكورا لمن أحسن إليه، غفورا لمن اعتذر إليه، والله على صراط مستقيم فليحاول الإنسان أن يكون على صراط مستقيم حتى لا تضل به المسالك الملتوية. ولا تتفرق به السبل العوج.

والله تعالى متصف بكل كمال، متنـزه عن كل نقص، فليضع الإنسان نصب عينه أن يبرأ من النقص وأن يتصف بالكمال حسب جهده.

فأي إيحاء أكرم وأعظم تأثيراً في النفس الإنسانية من هذا الإيحاء: التخلق بأخلاق الله والاقتباس من كمال الألوهية؟ وأي مثل أعلى يداني هذا المثل الذي اتخذه المؤمن نصب عينيه: أن يقترب من الله ويوثق صلته به، عن طريق العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه؟

ـــــــــ

- من كتاب "الإيمان والحياة" لفضيلة الشيخ.