د. يوسف القرضاوي

من الشروط التي اتفق عليها الأصوليون: أن يكون المجتهد عدلا مرضي السيرة يتقي الله تعالى، ويتحرى الحق، ولا يبيع دينه بدنياه، فضلا عن دنيا غيره، لأن الفاسق والمتلاعب بالدين، والذي يجري وراء الشهرة الزائفة، لا يؤتمن على شرع الله تعالى أن يقوم فيه مقام النبي صلى الله عليه وسلم مفتيا ومبلغا ومعلما.

وإذا كان الذي يشهد على الناس في دراهم معدودة يجب أن يكون عدلا مرضيا عند المؤمنين، كما قال تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) [سورة الطلاق:2] وقال في آية المداينة: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، ممن ترضون من الشهداء) [سورة البقرة:282] فكيف بإنسان يشهد على الله تعالى أنه أحل أو حرم، أو أوجب أو رخص، أو صحح أو أبطل؟!

والحقيقة أن هذا الشرط ليس مطلوبا لبلوغ رتبة الاجتهاد، بل لقبول اجتهاد المجتهد وفتواه عند المسلمين، فقد يبلغ العاصي درجة الاجتهاد إذا حصل شروطه العلمية، وفي هذه الحالة يكون اجتهاده لنفسه صحيحا، أما لغيره فلا.

بيد أن مما يذكر هنا أن المرء لا يتقي الله تعالى ولا يخاف حسابه، قلما يوفق إلى الصواب، ويخشى أن تطمس ظلمة المعصية نور الفقه في قلبه، ولهذا قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن تتقواالله يجعل لكم فرقانا) [سورة الأنفال:29].

ومن المشهور هنا ما ينسب إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي!

وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاص!

ولهذا وجدنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده، ترشد إلى أهمية العبادة والتقوى والصلاح لدى من يتعرض للاجتهاد والفتوى والقضاء.

فعن علي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة".

فنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اشتراط العبادة بجانب العلم والفهم: "الفقهاء والعابدين".

ونحو ذلك ما رواه الدارمي في "سننه" عن أبي سلمة الحمصي مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة؟ فقال: "ينظر فيه العابدون من المؤمنين".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك، ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ولا يقول: إني أخاف وإني أخاف، فإن الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

وكتب عمر رضي الله عنه إلى قاضيه شريح: "أن اقض بكتاب الله، فإن لم يكن فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فاقض بما قضى به الصالحون".

كما نجد أئمة الفقه والاجتهاد ينوهون بأثر التقوى والصلاح في التوفيق لإصابة الحق. وقال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وقد اطلع على أقضية حفص بن غياث قاضي الكوفة وبغداد: "حفص ونظراؤه يعانون (أي يعينهم الله ويوفقهم) بقيام الليل" وقال الإمام أحمد بن حنبل في عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراقي أحد أصحابه: "رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق".

........

- من كتاب "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" لفضيلة الشيخ.