د. يوسف القرضاوي
رغم المناداة من زمن طويل بالعدالة الاجتماعية، وقيام أحزاب تنادي بالاشتراكية، فإن الظلم الاجتماعي في أوطاننا لازال حقيقة واقعة.
هناك فئات تتمتع بامتيازات غير معقولة، تجعلها تلعب بالملايين لعبا حيث يتاح لها من الفرص والإمكانات، ما يجعل الثراء يطرق بابها، وإن لم تتعب في السعي إليه.
وإلى جوار هؤلاء نجد أناسا يبحثون عن لقمة الخبز، فلا يجدونها، وإذا وجدوها فبشق النفس، مغموسة بالعرق والدمع والدم.
قصور فاخرة لا تجد من يسكنها، وإذا سكنها أصحابها فهي أيام معدودة من صيف أو شتاء، وفي مقابلها عشش من الصفيح، أو البوص، أو اللبن، وحجرات في الحارات والأزقة، في الأحشاء الدقاق للمدن، في كل حجرة منها عائلة من زوجين وأولاد، وربما معها أم أو أب!
شباب بلغوا الثلاثين أو أكثر، لا يستطيعون الزواج، لأنهم لا يجدون شقة صغيرة تؤويهم وزوجاتهم، وواحد ينفق في ليلة عرسه ربع مليار من الدولارات أو تزيد!
أناس لا يجدون (القروش) المعدودة، لسد جوعه، أو لستر عورة، أو لعلاج مريض، وغيرهم يعبثون بالملايين، ينفقون نفقة المسرفين، بل المتلفين، ويعيشون عيشة (أولى النعمة) المترفين، الذين اعتبرهم القرآن أعداء كل رسالة وخصوم كل إصلاح أو تغيير، وشيوع هذا الترف، وبروز أصحابه نذير بهلاك المجتمعات ودمارها، وفقا للسنة التي ذكرها القرآن في قوله تعالى: " وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا"(الإسراء:16).
ذلك أن التظالم الاجتماعي، يؤثر تأثيرا سلبيا على السياسة، وعلى الاقتصاد والتنمية، وعلى الأخلاق أيضا.
فحين تحتكر الثروة فئة من الناس، أو تتمتع أسرة أو طبقة بامتيازات لا تتوافر لغيرها، يعني ذلك أنها القادرة على التأثير على في السياسة، والوصول إلى المناصب السياسية العليا، بسطوتها الاقتصادية ونفوذها لدى من بيدهم الأمر، حتى البلاد التي تجري فيها انتخابات، يستطيع المال أن يلعب دورا كبيرا في التأثير على الناخبين، بالدعاية المركزة حينا، وبالتأثير على القوى الضاغطة حينا، وبشراء الأصوات حينا آخر، مما جعل بعض الناس ينادون بالديمقراطية الاجتماعية، قبل الديمقراطية السياسية، وإن كانوا في النهاية أضاعوا الاثنين معا.
وفي جانب الاقتصاد والتنمية، حين يرى الناس أن العاملين يحرمون، وأن القاعدين يكسبون، وأن الذين يكسبون الملايين هم لصوص الانفتاح، وتجار المخدرات، وموردو الأطعمة الفاسدة، والألبان الملوثة بالإشعاع القاتل، وأمثالهم من المتاجرين بصحة الشعب، وحياة الأجيال، وأن توزيع الثروة لا يتم وفق قوانين العدالة التي جاء بها الدين، وقامت بها السموات والأرض، ولكن وفق معايير تحكمية، أو أهواء بشرية، سينعكس ذلك سلبا على العمل والإنتاج كما ونوعا.
بل إن الشعور بالظلم قد يجعل الفرد لا يتحمس للدفاع عن وطنه، الذي لم يطعمه من جوع، ولم يؤمنه من خوف، وسيقول متذمرا ما قال المثل العامي: في همكم مدعوون، وفي فرحكم منسيون! أو ما قاله الشاعر قديما:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب!
وهذا ما جعل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول لواليه على حمص حين كتب إليه يطلب مالا لبناء سور المدينة، فقال له: حصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم! يريد أن المدينة التي يشعر أهلها بقيام الحق والعدل فيها يحميها أهلها ويستميتون في الدفاع عنها، قبل أن تحميها الأسوار والتحصينات.
وفي مجال الأخلاق والعلاقات الاجتماعية، يشيع التظالم رذائل الحقد والحسد والبغضاء، وهي التي اعتبرها الحديث النبوي (داء الأمم) وسماها (الحالقة) لا لأنها تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين.
كما أن روح الانتهازية وحب الإثراء من أي طريق، وأقرب طريق، وفقد الثقة بجدوى الاستقامة والجد في العمل، كل أولئك وغيرها بعض آثار الظلم الاجتماعي وهي من الموبقات للأمم والمجتمعات.
والتيار الإسلامي يقدم الحل العادل للخلاص من الظلم الاجتماعي، وإقامة العدالة الاجتماعية، وتقريب الفوارق بين الأفراد والطبقات، بحيث لا يزداد الغني غنى، والفقير فقرا، في ظل فلسفة كلية تمزج بين الروح والمادة وتجمع بين حسنتي الدنيا والآخرة، وتوفق بين مطامح الفرد ومصالح المجموع.
1- احترام الملكية الخاصة إذا تحققت من طريق مشروع، مع إيجاب قيود وتكاليف إيجابية وسلبية على المالك، باعتبار المال مال الله في الحقيقة، وهو مستخلف فيه. ومنع المالك من الإضرار بغيره، وبخاصة الإضرار بالمجتمع فملكيته ليست مطلقة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
2- تحريم موارد الكسب الخبيث، من مثل الإتجار في المواد المحرمة كالمسكرات والمخدرات أو الغصب أو السرقة، أو الرشوة، أو استغلال النفوذ، أو أي طريقة لأكل أموال الناس بالباطل.
3- تحريم الربا والاحتكار، وهما الساقان اللتان تقوم عليهما الرأسمالية الجشعة.
4- مساءلة كل من أثرى ثراء مفاجئا، أو جمع مالا مشتبها في طريقة كسبه أيا كان مركزه، وبخاصة كبار موظفي الدولة، وهو قانون "من أين لك هذا؟" وقد بدأه النبي صلى الله عليه وسلم، ونفذه في أكثر من واقعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
5- منع تملك الأشياء الضرورية للمجتمع، ملكية خاصة، اهتداء بحديث "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" وكانت هي الأشياء الضرورية للعرب في عصر النبوة، ويقاس عليها الآن كل ما يضر امتلاكه للأفراد.
6- منع المالك من السرف والترف والتبذير في ماله، لما للجماعة من حق فيه، إلى حد جواز الحجر عليه وغل يده عن التصرف فيه " وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا" (النساء:5) وتربية المجتمع عموما على الاعتدال في الاستهلاك وعدم إضاعة المال فيما لا يعود على الفرد ولا الجماعة بنفع مادي ولا معنوي ومحاربة العادات الضارة في الاستهلاك حفاظا على الثروة الخاصة والعامة.
7- اعتبار العمل حقا لكل إنسان قادر، وواجبا عليه في الوقت نفسه، وعلى الدولة أن تهيئ للفرد العمل المناسب، وأن توفر له من التدريب ما يلزمه، ولا يجوز إعطاؤه من الزكاة، وهو قادر فإنها لا تحل لذي مرة سوي.
8- من عجز عن العمل، أو قدر عليه ولم يجده، أو وجده ولم يكن دخله منه كافيا له ولمن يكلف بإعالته، وجبت إعانته حتى يكتفي.
9- فرض الزكاة على أغنياء الأمة لترد على فقرائها، والغني كل من ملك نصابا من مال نام، والفقير كل من لا يجد تمام الكفاية، والزكاة هي أول الحقوق في المال، وليست آخرها، ففي المال حقوق سوى الزكاة.
10- إعانة ذوي الحاجات الطارئة مثل الغارمين (المدينين) وأبناء السبيل (كاللاجئين).
11-تحقيق التكافل العام، الذي يجعل المجتمع كالجسد الواحد، بدءا بتكافل الأقارب، فتكافل أهل الحي أو
أهل القرية، فأهل الإقليم، فالمجتمع كله بعد ذلك، فكل مواطن في المجتمع الإسلامي ـ مسلما أو غير مسلم ـ يجب أن يتحقق له تمام كفايته، وهو ما يشمل المأكل والمشرب والملبس والمسكن والعلاج، والتعليم، وكل ما لا بد له منه له ولأسرته، بما يليق به، من غير إسراف ولا تقتير، ويؤخذ ذلك من الزكاة، ومن موارد الدولة الأخرى، وقد وضحنا ذلك في كتابنا (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام).
12- رعاية التكافل الزماني ـ إلى جوار التكافل المكاني ـ وهو التكافل بين الأجيال بعضها وبعض، بحيث
لا يطغى جيل على حقوق الأجيال التي بعده، بتبديد الثروة الوطنية، أو الإسراف فيها، أو تحميلها أعباء نتيجة سوء تصرف الجيل القائم، وقد وضحنا بعض ذلك في الحديث عن (التخلف).
13- توزيع الثروة وفق قاعدة (الفرد وبلاؤه) وقاعدة (الفرد وحاجته) وإقرار مبدأ الميراث والوصية كما شرعهما الله، وهما من عوامل تفتيت الثروات الكبيرة.
14- تقريب الفوارق الشاسعة بين الأفراد والطبقات بالعمل المخطط الدؤوب على رفع مستوى الفقراء، والحد من طغيان الأغنياء، كيلا يبقى فقر مدقع وبجواره ثراء فاحش، عملا بتوجيه القرآن في حكمة توزيع الفيء على الفئات الضعيفة " كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ" (الحشر:7).
15- تنمية الثروة الفردية والجماعية، بما لا يضر بقيم الأمة وأخلاقها وعقائدها فالاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي، ولا يقبل الإسلام النمو الاقتصادي إذا كان على حساب المثل العليا، ولهذا أهدر المنافع الاقتصادية للخمر والميسر لما وراءهما من الإثم الكبير، ومنع حج المشركين وطوافهم بالبيت عرايا وإن خسر المسلمون من وراء ذلك مكاسب مادية " فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء"(التوبة:28).
______
- من كتاب "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي" لفضيلة الشيخ.