د. يوسف القرضاوي
لا يتصور للعلمانية أن تنجح في بلد إسلامي؛ لأنها مناقضة لطبيعة الإسلام، الذي تدين به الشعوب المسلمة، ومناقضة لمفاهيمه وسلوكه وتاريخه، ولا يوجد أي مبرر لقيامها، كما وجد ذلك في الغرب النصراني.
كل ما تفعله العلمانية أنها تحاول تغيير طبيعة الأمة واتجاهها، والأمة لا تستجيب لها، حيث ترفض أجهزة المناعة في كيانها، زرع هذا الجسم الغريب في داخلها، وتقاومه بكل قوة، فينشأ بين الحكم العلماني وبين الأمة المسلمة صراع، يظهر حينا ويختفي أحيانا، ويمتد يوما، وينكمش يوما آخر، ولكنه صراع باق مستمر؛ لأنه صراع بين الذات وبين العدوان على الذات، وقد يكمن كمون النار في البركان، ولكنه لابد يوما أن ينفجر.
والاتجاه العلماني ـ على كل حال ـ يعوق انطلاق الأمة بكل طاقاتها؛ لأنه غريب عنها، دخيل عليها، لا يحركها من داخلها، ولا يخاطبها، باللسان الذي يهز كينونتها.
وأبرز بلد إسلامي حكمته العلمانية، ونفذت فيه خططها، وضربت بيد من حديد كل من يقاومها، وخاضت في ذلك بحرا من الدم، هو: تركيا، بلد الخلافة الإسلامية الأخيرة، الذي قهره "أتاتورك" على تطبيق النموذج الغربي في الحياة كلها، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والتعليم والثقافة، وسلخه من تراثه، وقيمه، وتقاليده، كما تسلخ الشاة من جلدها، وأقام دستورا لا دينيا، يعزل الدين عن الحياة عزلا كاملا، قامت ـ على أساسه ـ قوانين مجافية للإسلام كل المجافاة، حتى في شئون الأسرة والأحوال الشخصية.
فهل استطاع أتاتورك وخلفاؤه من بعده، ومعهم الدستور والقوانين، والتعليم، والإعلام، والجيش والشرطة، ومن ورائهم الغرب بكل جبروته وقوته، أن يجتثوا جذور الأفكار الإسلامية، والمشاعر الإسلامية، والتطلعات الإسلامية، والقيم الإسلامية، من حياة الشعب التركي المسلم؟
الواقع الذي يشهده، كل من زار تركيا في السنين الأخيرة، تشهد به المساجد المزدحمة بالمصلين من كل الأجيال، وتشهد به المدارس القرآنية، التي تعد بالآلاف، وتشهد به معاهد الأئمة والخطباء، ويشهد به انتشار الكتب الإسلامية، ويشهد به حال الأتراك، الذين يعيشون في ألمانيا، وغيرها من بلاد أوروبا، هذا الواقع يقول: لا، وألف "لا".
ولا بأس أن أنقل هنا ما كتبته جريدة "لوموند دبلوماتيك" الفرنسية، في 18/1/1983م، عن "تركيا بين مدنية الغرب وأصالة الإسلام"، ونقلته مجلة "الرائد"، التي تصدر في آخن بألمانيا، تقول الصحيفة: بعد قرنين من الإصلاحات، الرامية إلى طبع المجتمع التركي بالطابع الغربي، وبعد نصف قرن من الحكم العلماني، هنالك حديث الآن عن انبعاث الإسلام مجددا في تركيا، التي كانت من أوائل الدول الإسلامية، التي فصلت بين السياسة والدين.
فالثورة الكمالية (كمال أتاتورك) كانت قد جعلت من العلمانية أساس الدولة وأساس التحديث فيها، مما كان يعني أن الإسلام يجب أن يخرج من الحياة العامة، ليحتفظ فقط بحق التأثير في ضمائر المتدينين، وهكذا تحول الإسلام، الذي هو دين وسياسة قبل كل شيء، إلى مسألة خاصة، بجرة قلم من جانب الدولة، التي راحت تشرف عليه.
والواقع أن فصل الإسلام عن السياسة في بلد مسلم بصورة تامة تقريبا، كانت تجربة فريدة، تقوم بها دولة علمانية قائمة على النمط الغربي. وأدى هذا الوضع إلى انتقال الإسلام من موقع السيادة والسلطة إلى موقع الظل في الأوساط الشعبية، وخاصة الفلاحين في الأناضول، وأصبح عرضة للقمع غالبا، فالمدارس القرآنية والزوايا، اعتبرت غير شرعية، ابتداء من عام 1925، على اعتبار أنها مراكز للتخلف والتآمر الرجعي.
ولكن هل انطفأ الإسلام ـ مع ذلك ـ في ضمائر الأتراك، واختفى من الحياة السياسية التركية؟ يبدو أن العكس هو الصحيح. ومع اختفاء الإسلام من عالم الطبقة الحاكمة، تحول إلى مركز الخيارات السياسية في البلاد، فالجمعيات الإسلامية والتعاليم الدينية، استمرت تمارس نفوذها وسط الجماهير في الأناضول، بل واكتسبت أنصارا جددا.
إن حماس الجماهير التركية للرموز الإسلامية، لا يرجع ـ فقط ـ إلى نشاط جمعيتي "النقشبندي" و"القادري" وغيرهما، أو لكون الحكم معاديا للدين، بل يرجع ـ كذلك ـ إلى رفض المجتمع التركي لأي نموذج اجتماعي يخرج عن الإطار الثقافي الإسلامي، وخشية هذا المجتمع من رؤية الهوية الثقافية التركية، تذوب شيئا فشيئا وسط تنامي نفوذ نمط الحياة الغربية داخل تركيا.
ـــــــــ
- من كتاب "الإسلام والعلمانية وجها لوجهه" لفضيلة الشيخ.